د. محمد بن يحيى الفال
لم تشهد الساحة السياسية الأمريكية في تاريخها الحديث تأزُمات بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي كما حدث ويحدث بينهما خلال فترتي الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب والرئيس الديموقراطي الحالي جو بايدن. تاريخياً لم تشهد الولايات المتحدة في تاريخها المعاصر أزمات سياسية داخليه عاصفة إلا ما حدث خلال حقبة رئاسة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في أوائل السبعينات من القرن المنصرم والذي كان من وراء التسجيل السري لفعاليات مؤتمر الحزب الديموقراطي بالقضية التي عُرفت إعلاميا بفضيحة ووترغيت والتي اشتعلت بعد نشر تفاصيلها على صفحات صحيفة الواشنطن بوست من قبل الصحفيين كارل برنسستين وبوب وود ونتج عن ذلك استقالة نيكسون من منصبه وتولي نائبه جيرالد فورد المهام الرئاسية كما يقتضي ذلك الدستور الأمريكي.
الكونجرس الأمريكي بغرفتيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ أضحي ساحة لخوض سلسلة من المُناكفات السياسية بين الحزبين والتي تبدأ خيوطها الأولي تشريعياً للأغلبية في مجلس النواب وحين كانت بأيدي الديمقراطيين جاء دور محاسبة الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب بمحاولتي عزل تم تمريرهما من مجلس النواب وفشلتا بسب عدم حصولهما على نسبة الثلثين من أعضاء مجلس الشيوخ المكون من مائة عضو في سابقة تاريخية لم تحدث لرئيس أمريكي من قبل. اتهم الرئيس ترامب في حيثيات محاولة العزل الأولي بسوء استعمال السلطة وتقويض عمل الكونجرس على ضوء سعيه للحصول من حكومة الرئيس الأوكراني زيلينسكي على إفادة علنية عن علاقات تجارية مشبوهة لهنتر بايدين في أوكرانيا لتقويض فرص والده بايدن في منافسة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 وذلك مقابل تزويد أوكرانيا بمعدات عسكرية وكانت التهمة في محاولة العزل الثانية التحريض على التمرد والتي أعقبت اقتحام مناصريه لمبني الكونجرس أسفرت عن قتلي وخسائر مادية وصدمه في الداخل الأمريكي. حادثة اقتحام الكونجرس لم تمر بدون عقاب فشكل مجلس النواب بأغلبيته الديموقراطية لجنة تحقيق في أحداث الاقتحام سميت بلجنة السادس من يناير وهو التاريخ الذي حدث فيه الاقتحام لمحتجين على نتائج الانتخابات الرئاسية من أنصار الرئيس ترامب والتي جاءت بجو بايدن وبأنها انتخابات تم تزويرها وهو الأمر الذي لم يتم إثباته بغض النظر عن كل القضايا التي رفعها محاميين الرئيس ترامب للاحتجاج على نتائجها. اللجنة شارك فيها عضوين من الحزب الجمهوري هما النائبة ليز تشيني من ولاية وايومنغ والنائب آدم كينزينجر من ولاية إلينوي وكلاهما فقد مقعدهما بعد مشاركتهما في أعمال لجنة السادس من يناير، الأولي خسرت المقعد لمنافستها المدعومة من الرئيس ترامب والأخر أثر الانسحاب وعدم الترشح عن دائرته لانتخابات التجديد النصفية المنصرمة 2022. لجنة السادس من يناير صدر تقريرها مؤخراً في 800 صفحة بعد 18 شهر من المداولات الماراثونية وصدرت عنها توصية لوزارة العدل بتوجيه اتهامات جنائية للرئيس ترامب وآخرين ومنعهم من تولي أي مناصب فيدرالية مستقبلاً لدورهم في حادثة اقتحام الكونجرس قلعة الديموقراطية الأمريكية. الرئيس ترامب ومن خلال شركاته واجه عدد من التهم بالتهرب من الضرائب وأدينت هذه الشركات، وإن لم يدان هو شخصياً أو أي من أفراد أسرته، بما مجموعة 17 تهموتم تغريم شركاته مليون وستمائة ألف دولار. الرئيس ترامب كذلك يواجه تهم من وزارة العدل الأمريكية بعدم تسليم وثائق سرية وجدت في منزلة بولاية فلوريدا عددها 325 وثيقة منها 60 وثيقة غاية في السرية وكان من المفترض عليه تسليمها بعد تركه منصبة وكما هو متعارف عليه لإدارة الأرشيف والوثائق الوطنية وعليه فقد عين المدعي العام محققاً خاصاً للتحقيق في هذه القضية.
في انتخابات التجديد النصفية في نوفمبر المنصرم خسر الديموقراطيين أغلبية مجلس النواب والتي آلت إلى الجمهوريين وأن كان بأغلبية ضئيلة وما أن تحقق لهم الفوز حتى أعلنوا عن نيتهم عقد جلسات لتقصي الحقائق لدور هنتر بايدن أبن الرئيس في عقد صفقات تجارية مشبوهة مع كل من الصين وأوكرانيا وحصوله من شركة غاز الأخيرة على عمولة شهرية تبلغ خمسين ألف دولار شهرياً وهي التهم التي سعي الرئيس ترامب لإثباتها بدعم حكومي أوكراني وأدت في نهاية المطاف إلى محاولة عزله الأولي. كذلك أكد الجمهوريين بأنهم سوف يحققون في دور كل من وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية في التباطؤ في التحقيق مع مزاعم الفساد المرتبطة بهنتر بايدن أبن الرئيس وكذلك كذبه فيما يتعلق بتهم تعاطيه للمخدرات للحصول على مسدس شخصي. في نوفمبر المنصرم تطرقت تسريبات صحفية عن أكتشاف10 وثائق سرية للغاية وصفحات سرية أخرى تم الإعلان عنها مؤخراً وجد بعضها في منزل الرئيس بايدن في ولايته ديلاوير والبعض الأخر في منزله بواشنطن العاصمة وذلك عندما كان نائباً للرئيس في إدارة الرئيس باراك أوباما وتأكدت هذه التسريبات بعد أن أعلن محاميين الرئيس بايدن عن صحتها وبأنهم مع تواصل مع إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية لتسليم الوثائق لها كما يقتضي ذلك القانون الفيدرالي. طبعاً صحة ما حدث كان بمثابة طوق نجاة وهدية لم تكن بالحسبان للرئيس ترامب المتهم بوجود وثائق سرية بحوزته مما يجعله والرئيس بايدن في نفس القارب فيما يتعلق بعدم تسليمهما الوثائق السرية التي بحوزتهما. الأمر لم يمر بدون تصرف سريع من قبل المدعي العام وبخطوة استباقية لها دلالاتها وحتى لا يظهر للرأي العام الأمريكي بأنه يحابي الرئيس بايدن الذي عينه في منصب المدعي العام سارع بتعين محقق خاص للتحقيق بقضية الوثائق السرية المكتشفة بحوزة الرئيس بايدن.
لا يبدو بأن هناك انفراجات تلوح في الأفق القريب بين الجمهوريين ومن ورائهم الرئيس ترامب وبين الإدارة الحالية لأسباب لعل أهمها الانتخابات الرئاسية المقبلة 2024 والتي سيسعى الرئيس ترامب للحصول على ترشيح الجمهوريين لخوضها وكذلك حصولهم على الأغلبية في مجلس النواب وهم الذين في جعبتهم قائمة حسابات يسعون لتصفيتها مع الإدارة الحالية لتنطبق عليهم المقولة الأمريكية الشهيرة»Tit for Tat»، «هذه بتلك»!