د.فوزية أبو خالد
مكتبة المدرسة
«أبله» نصرة و»أبله» أحلام عزب
المكتبة شبه الحقيقية الأولى التي رأيتها في حياتي كمكتبة أو بالأحرى كنواة مكتبة تلك التي شاركتُ في تأسيسها بما لدي ولدى زميلاتي من كتب بمبادرة وإشراف «أبلة مهجة» بالمدرسة الأولى المتوسطة بحي العمارية بجدة، ومكتبة أخرى في المرحلة الثانوية أسسناها نحن الطالبات بإشراف «أبلة أحلام عزب» وأبلة «نصرة من المنصورة». كانت المكتبة الثانية عبارة عن حجرة عارية أرضها إلا أن جدرانها الأربع كسيت بكروم الكتب بما فيها مجلدات من دائرة المعارف وكتب دين وفلسفة وعلم نفس، وبما فيها كتب لفرويد وسارتر، وكتب أدب وخاصة أدب المهجر العربي الأمريكي، وأدب حديث من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين، فدوى طوقان، سلمى خضرا الجيوسي، وليد إخلاصي، زكريا ثامر، جاذبية صدقي، سهير القلماوي، أمينة السعيد، لطيفة زيات، مارون عبود، ليلى بعلبك، كوليت خوري غادة السمان، ديزي الأمير, سلمى كزبري, سميرة المانع، عاتكة الخزرجي، لميعة عمارة وأمل جراح مع مجموعة من كتب التراث والدين، وأذكر منها الأدب الصغير والأدب الكبير وكليلة دمنة لعبدالله ابن المقفع، كتاب حي بن يقظان لابن طفيل، كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وكتب البخلاء ورسائل الجاحظ وكتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، والبصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي، وعدد واسع من مجلة العربي، ومجلة قافلة الزيت. أما (أبلة وفاء مدرسة علوم الدين) فقد أغنت المكتبة أيضاً بعدد من المراجع ومنها كتب قيمة وغاية في الإبداع، ككتب خالد محمد خالد عن السيرة النبوية الشريفة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم (إنسانيات محمد)، (عشرة أيام في حياة الرسول)، وسيرة عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وأذكر من عناوينها «وداعا عثمان» ...إلخ.
والجدير بالذكر قبل أن أفضي إلى مقام آخر من هذا المقال أن تلك التجربة لم تعنَ فقط بتفتيح حواسنا الغضة على ذلك الكم النوعي والمتنوع من الكتب، بل أدخلتنا في فضاء مفاهيم جديدة للقراءة تختلف عن قراءة المقررات المدرسية، فكنت مع صديقاتي تحديدًا نورة محضار وفريال جاد الحق وأحياناً يشاركننا أخريات منهن عواطف مراد وأمل خوجة ونوف بنت متعب نختلس وقت الفسحة وما قبل الانصراف من المدرسة (وقت الصرفة)، أو أوقات حضورنا مبكرًا قبل طابور الصباح لنسرق قبساً من تلك الكتب. وأيضاً قدمتنا تلك التجربة العظيمة في مغزاها وانعكاسها على أعواد الند التي كانت تتضوع تحت مرايلنا الرمادية وبلوزاتها البيضاء لمفهوم الاستعارة مع أنه لم تكن توجد على ما أذكر لأي كتاب أكثر من نسخة، فقد كانت تسمح «المعلمات» لنا باستعارة بعض الكتب. والمفهوم الآخر الذي تعلمناه من تجربة بناء مكتبة مدرسية كان مفهوم قراءة كتاب وعرضه على الطالبات اللاتي ينتمين إلى جمعية المكتبة. وأذكر أن «أبله أحلام» تحديدًا قد قدمت لنا كتاباً يتحدث عن المقاومة الفلسطينية، كما قدمت لنا أبله دلالا وهي معلمة لعلم النفس قراءة لكتاب ابن سيرين عن الأحلام، وكل المدرسة معلمات وتلميذات حرصن على حضور اللقاء. وقد أفشيت يوماً لأمي أحد أسراري المدرسية ولم أنسَ غضبها الخفيف المشوب بابتسامة مختبئة في لمعة عيونها حين أخبرتها أنني أحياناً «أتشاقى» لتخرجني إحدى المعلمات خارج الفصل فاهرع لأختبئ في المكتبة، وكانت تقع في حجرة من حجرات الفصول التي كانت قد بُنيت بفناء المدرسة لطالبات الثانوي خارج المبنى الرئيسي الذي ضمَّ مراحل التعليم الأخرى. ولطالما أطل عليَّ سؤال.. أين ذهب نور تلك المكتبة وعشبها المعرش على الجدران بعد أن انتقلت المدرسة من وسط بلد جدة إلى طريق المدينة الطالع -على ما أعتقد- بعد أن تركتها بسنوات.
ويلفتني الآن كيف تسنى لمُدرساتنا مع تلميذات يافعات الحصول على ذلك الكم من الكتب وعلى تلك النوعية من الكتب دون رقابة على ما يبدو من إدارة المدرسة أو سواها، خلافاً لما آلت له الأمور من رقابة مشددة على الكتب بعدها بسنوات بما جعل لتلك الرقابة مؤشرات يصعب تجاهلها، ومنها شح الحرية الذي آلت إليه حال دكاكين الكتب التي كانت في بحبوحة منها إبان طفولتي ليتحول الكثير منها إلى مخازن تقتصر على نوع معين من كتب التراث والدين، حتى أنني رأيت بأم عيني الجزر الذي شهدته مكتبات أهلية بوسط البلد بالرياض وبالملز والعليا بعد فترة من المد التي سأتناولها لاحقاً. عدا عن شواهد تلك المؤشرات التضيقية اللاحقة التي كانت تظهر جلية في معارض الكتب الدولية التي كانت تقام في العاصمة بتقطع قبل انتظامها مرة أخرى بداية الألفية الثالثة. وهذه كلها ليست إلا مؤشرات دلالية للفارق النوعي والفجوة الكبيرة في مسار التاريخ والسلوك الاجتماعي وانعكاسته على الثقافة ومنها المكتبات بين مرحلة وأخرى بالمجتمع السعودي بما يمكن تحقيبه بفترة ما بعد حادثة احتلال الحرم المكي الشريف والسندروم السيامي لظهور الثورة الإسلامية بإيران كنظام طائفي ثيولوجي من جانب، وظهور الحالة الأفغانية من جانب آخر، وعلاقة تحولاتنا وتفاعلنا الداخلي بالواقع المحلي والإقليمي والعالمي لتلك المرحلة ما بين نهاية السبعينات لمنتصف التسعينات وطالع. يتبع