أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: قالوا في المثل: (تزبَّب قبل أنْ يتحصرم)، وهو مثل عربي سائر يضرب لمن ظهر بين الناس قبل كماله واستعداده، وقد كنت أحسبه من الهجاء اللاذع ثم تبين لي أنه من نعم الله عليَّ، ولو استسلمتُ لمدلوله ولمدلول أمثاله من قواميس التثبيط: لكنت كزاهد (الخُبوب) الذي لبس جبة الصوف ورمى مسوقة السانية ليصلي في بيت المقدس بعد صلاة العشاء ثم يعود لمزرعته بنجد قبل صلاة الفجر، وظل يطوف ليله على مزرعته وهو يظن أن الأرض تُطوى له، وبعد طول الجهد اتصلت على مزرعته أم أولاده، وقال: يا أمة الله: أسألك بالله: هل هذه قرية من قرى الشام؟!؛ فقالت له: عساك (للنَّفْرة)، هذه قرية من قرى القصيم، وخذ المسوقة فإن المعاويد تسني وحدها! قال أبو عبدالرحمن: مثل هذه القواميس ثبطني بها قلة من أساتذتي في مختلف مراحلي الدراسية، بل إنني كنتُ أكتب مقالات أعارض بها أفكار الإمام ابن حزم - وإن كنت عظيم المحبة له - وأُسمعها شيخي محمد بن عبدالرحمن بن داوود لعله يجد عندي بوادر الحرية في الرأي في وقت مبكر، وكنت أستعمل أسلوب ابن حزم العنيف في الرد عليه نفسه؛ فرأيت وجه الشيخ ابن داوود رحمه الله يحمارُّ ويصفارُّ، وكادت تنفرط العبرة من مُوقه، وذلك لضعف فكرتي في مخالفة الإمام ابن حزم، ولقصور أداتي في الاجتهاد، ولتطاولي على القمم؛ فما زاد عليَّ أنْ رمى عليَّ الأوراق، وقال: (ليتك تسكت.. ليتك ما تحكي)؛ فآلمني صنيعه جداً، وظننت أنَّ هذه غيرة من تلميذه، ولم تخل نفسي من موجدة؛ فلما تقدم بي السن، وفتح الله عليَّ مواهبه، ونبشت أوراقي مزقت اعتراضي قبل أن أكمل مطالعته، وانتقدت نفسي انتقاداً لاذعاً، واستسخفت ما كتبته واستبردته، وزاد إجلالي للشيخ ابن داوود رحمه الله، وكان من حفاظ كلام الله، ومن الفقهاء على مذهب الحديث، ومن أهل التمكن في اللغة والذوق البلاغي - وقد درست عليه بعد انتقالي إلى الرياض جملة من كتاب (منهاج السنة) لابن تيمية، وجملة من شرح العكبري والبرقوقي لديوان أبي الطيب المتنبي، وكان ذلك في سطح المسجد شتاء، وفي سرحته وخلوته.. وانقطعت عن مدارسته رويداً رويداً قبيل عام 1382هـ فحرمت خيراً كثيراً، وتساقطت في حبائل الصحفيين والفنانين، وهي سقطة لا لعاً لها حتى تداركني الله بأخرة.قال أبو عبدالرحمن: عظم الشيخ ابن داوود رحمه الله في عيني، لأنه لم يكن حميماً لآراء الإمام ابن حزم، ومع هذا أسره أبو محمد في مواضع لم يعده الصوب فيها، فامتعض لذات الحق ولم يجامل تلميذه.. وعظم في عيني لأنه كان صارماً في تأديبه بتلك الكلمة التي هزت معنويتي وكياني، وكان رقيقاً في تأديبه لأنه تأنق في اختلاق مناسبة حديث يصلح لي ويعرف أني أسايره فيه ليأخذ رأيي فأنسى الهضيمة والتخجيل، لا سيما أن المجلس كان محضوراً.. ومثل هذه الكلمة المؤلمة عدلت التوازن في طموحي وصلف الشباب، ومنذ تلك اللحظة أزداد تحسراً على نفسي كلما استجد لي علم، والشيخ رحمه الله لم يكن متحجراً ففي الامتحان التحريري كان عن حكم (الجواهر) في السلم وقد قتله لنا بحثاً، إلا أنني نسيت حفظي من كتاب (زاد المعاد)، فلذت بالقاعدة وقلت: (والله إني لا أعرف ما هي الجواهر ولكن إن كانت مكيلاً فحكمها ... إلخ)؛ فطرب شيخي ابن داوود للجواب والقسم وحسن التصرف باللوذ إلى القاعدة، ولم يبخسني درجة الكمال والتمام، وهذا من حرية فكره وألمعيته رحمه الله الأبرار وجمعنا في دار كرامته.قال أبو عبدالرحمن: وعن غلطتي الصلعاء أحدثكم، أنني منذ قرأت سيرة عنترة والزير سالم وبني هلال وبعض الشعر العامي الذي طبعه ابن حاتم والفرج تسرعت في كتابة (كراريس) على أنها مؤلفات بخط لا يعرفه غيري على شح في الورق آنذاك، وقلة ذات يد لشراء الأقلام، ولم تطب نفسي بتأليف أقدمه للكبار إلا بعد ما تخرجت من الابتدائي سنة 1376هـ؛ وهما مؤلفان: أحدهما (الأصول والفروع) في الأنساب بعضه نقل عن مصادر حقيقية قليلة، وبعضه عن رواية شفهية حقيقية، وبعضه أكملته بخيالي وبعض الكذيبات، وكنت أحاول النشر في الصحافة، فتقبر مقالاتي، حتى مَنَّ الله على شيخي حمد الجاسر فنشر لي باليمامة سنة 1979م مقالة عن الوشم، وفي هذه المقالة غلطةٌ صلعاء إذ عرَّفتُ (الحُرَيِّق) بالتصغير على أنه (الحَرِيق) بالتكبير؛ فرد على المقالة الشيخ عبد الله بن خميس، والأستاذ إبراهيم العمار رداً ساخراً، ولكنني كدت أطيرُ من الفرح لأنه ظهر اسمي في الجريدة ولفت نظر الكبار.. وبعدها بعام حضرت عند الشيخ ابن خميس على مائدة عشاء أقيمت على شرف الشيخ عبد الله المسعري- وأظنه كان أستاذاً لابن خميس في دار التوحيد- فانجر الحديث إلى كُتَّاب الصحافة، ونكَّت بكاتبٍ عرَّف (الحريِّق) بالتصغير بأنها (الحريق) بالتكبير، وكان الشيخ ابن خميس يهون من الغلطة، ويتعلل بأن النقص سلم الكمال، ولكنني لم أستطع كتمان الافتخار فقلت للشيخ المسعري: (ذلك الكاتب هو أنا)؛ فضحك المسعري وقال: مبروك.وضحك الشيخ ابن خميس وقال: الله يهديك يا أبو عمر - لم تكن كنيتي حينذاك أبا عبد الرحمن- نحن (ندمدم) الموضوع وأنت تفضح نفسك.. وبعدها قدمت له كتابي (الأصول والفروع) أربع كراريس على أنه سيصححه ويقدم له، وقد مللت من المراجعة والمكاتبة من شقراء بصدده.قال أبو عبدالرحمن: ولما رأى الشيخ ابن خميس حبي للكتب شجعني على رحلة قطر لجلبها من هناك مجاناً وكتب معي توصيات للشيخ ابن مانع والشيخ علي بن ثاني رحمهما الله، ولرحلة قطر قصة ممتعة ذكرتها بالتفصيل في كتابي (تباريح التباريح)، ومن حُسن ظنه بي بأخرة أن دعاني مع من دعا لتأسيس جريدة الجزيرة، وكان في المدعوين صديق لي ثبطني عن المشاركة بعد أن حضرنا أول اجتماع، ولم أكن يومها أجد ما أساهم به.. وقد تأسست جريدة الجزيرة ولمعت - ولا تزال لامعة - فحرمت أن أكون أحد أعضائها المؤسسين مع أن الشيخ ابن خميس أراد لي الخير، ولكنها قلة ذات يدي، وتثبيط صديق، ولهذا السبب التاريخي الهش أعتبر نفسي من أسرة جريدة الجزيرة، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
**
وكتبه لكم: (محمَّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) -عفا الله عَنَّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-