أمين شحود
استمعت إلى طبيب في برنامج إذاعي يتحدث عن أهمية شرب الماء في الشتاء، أقنعني كلامه فشربت من الماء لترين أو يزيد، ثم خرجت إلى مشواري ممتناً لتلك البرامج التوعوية.. كم نحن بحاجتها، ركبت التاكسي ودخلنا -كالعادة- في زحمة شوارع الرياض.. وما إن مرت دقائق حتى بدأت الطبيعة تناديني.. يا له من نداءٍ لا تستطيع تجاهله وخاصة في الشتاء، اشتد الزحام وتوقف السير ولم يعد ثمة بارقة أمل أو قشة غريق، ولا زالت الطبيعة تلح في ندائها مهددة متوعدة زاجرة.. احترت ماذا أفعل؛ فلم يكن بجوار الشارع مطعم أو مقهى، استعنت بالعم قوقل وبحثت عن دورة مياه عامة، فوجدت أقربها داخل حديقة على مسافة 300م مشياً على الأقدام.. اتخذت قراراً عاجلاً بالنزول مستعيناً خلال لحظات بمصفوفة إدارة الوقت لستيفن كوفي (عاجل وهام) مستغلاً توقف السيارات، وحاسبت التاكسي الذي كاد يظن -لولا النقود التي أعطيتها إياه- أنني مجنون أو «علي بابا»..
وبينما بدأت أهرول، مر عليّ شريط حياتي وانتهت أمنياتي إلا أمنية واحدة، لم يعد للهموم مكان ولا للتفكير زمان، ولا للحب موقع في الوجدان.. نسيت أهدافي وتركت آمالي وتغافلت عن البلاوي، وجمعت شتات بصري وتركيز عقلي نحو دورة المياه التي كانت تلوح من بعيدٍ كسراب.. أحسب المتبقي من الأمتار وأطلب الستر من الستار..
في الطريق استوقفني شخص يسألني عن اسم محل تجاري، «مو وقتك يرحم أمك» أسررتها في نفسي ولم أبدها له ولسان حالي يفضحني.. وتهربت منه قائلاً: أنا ما في معلوم.. ما في معلوم.. أقسم لك يا حبيبي أنني لم أعد أعلم شيئاً إلا أنني في كرب عظيم وخطب جليل.. عند المحن قد تتغير اللهجات واللغات والأساليب والدعوات والنظرات وحتى المبادئ والقيم والمسلمات.. حتى القطة البائسة التي مرت مرور الكرام بجانبي أحسست أنها عقبة تجاه حلمي الأوحد وهدفي الأسمى..
تباً لتلك النصيحة الناقصة التي شجعتنا على شرب المياه دون تحذيرات وتنبيهات.. شعرت بالسخط على ذلك البرنامج الإذاعي بما فيه الضيف والمذيعة والمخرج والمنتج ومعد السيناريو وكل من شارك فيه.. إنه الإنسان الذي لا يوثق بمدحه ولا بذمه.. يتقلب مزاجه فتتغير آراؤه.. يا لضعفه!.. يتجبر ويتكبر ثم يخضع لسنن الكون ولا بد.. ويا رب ارحم أولئك الذين يعانون من أمراض لا يستطيعون معها القيام بأبسط العمليات الحيوية إلا بمشقة أو مساعدة.
قيل لحكيم: كيف نستشعر النعم؟
قال: أن نجرب فقدها.
قيل: فأي النعم محببة إليك؟
قال: أقول لك لاحقاً.. «مو فاضيلك».. اتركني في همي الآن.
اقتربت الأمتار من نهايتها أخيراً، وبدأت السعادة تبدو على محياي، تنهدت تنهيدة النجاة.. وأقسمت أن أنزل روايتي في كتاب التنوخي «الفرج بعد الشدة»، وصرت أرى لوحة «دورة مياه للرجال» أجمل اللوحات وأحسنها، وكأنها خطت بماء الذهب وكتبت بأحرف من نور.. أمسكت بمقبض الباب استعداداً للاقتحام، لم يفتح معي وصوتٌ آسيوي من خلفي يقول: معليش مدير هذا حمام خربان!