سهام القحطاني
كان الزمن عند العرب قبل الإسلام معادلا للموت؛ لأنه فعل»قضاء»وليس «نماء» .
«وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)-الجاثية-
ولو اقتربنا من هذه الدلالة فيُمكننا أن نقدم بعض التعليلات لها.
إن شيوع الإيمان «بألوهية الدهر» عند عرب الجاهلية؛بسبب أن حياة وموت العرب متعلقة بالزمن لكونها حياة مرتبطة بالمناخ والطقس
وفصول السنة، فالربيع هو حياة لهم ولماشيتهم، والأرض الخصبة دوما ميلاد يتجدد في نفوسهم كما في أرضهم، و الصيف والخريف والشتاء هو موت لكل شيء حتى لقصص الحب عندما يتفرق العشاق للبحث عن مراع تجلب لهم الحياة وتدفع عنهم نحس الجدب ورائحة الموت.
ولعل هذا ما سنّ لشعرائهم «المقدمات الطللية» التي تحكي قصص الحب والفراق مع الزمن.
حييت من طلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
«عنترة بن شداد»
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ
«طرفة بن العبد»
ولدور الزمن «المؤلم» في حياة العربي قرر أن يُخلّد آثاره من خلال أشهر وسيلة ثقافية في حياته وهي الشعر، بحيث أصبح الزمن نسقا ثقافيا في ذاته يتجلى من خلال المقدمة الطللية» هذا النسق الذي أصبح جزءا من هوية القصيدة العربية حتى بعد تحضر العرب واستقرارهم.
هذا في المجمل، أما التفصيل فالزمن عند العرب هو «ليل ونهار» والليل هو زمن الألم والقلق والخوف، ولعل هذه الرؤية لليل هي حاصل ما كان شائعا من الحروب والثأر وغارات قطّاع الطرق، فالنهار رؤية كاشفة لكل متخفِ لكن الليل ستار لكل عدو وفرصة متاحة للموت أن يقتنص من يُريد.
كليني ِلهمٍّ يا أميمة ناصبِ
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ
وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح الليل عازب همه
تضاعف فيه الحزن من كل جانب
«النابغة الذبياني»
وهيمنة العقيدة الدهرية على فكر عرب الجاهلية كانت من أهم أسباب كفرهم فعدم وصول فكرهم لتصور مسألة «البعث» كإحياء للزمن قبل إحياء رفات الأجساد كان دافعا للإنكار باعتبار إيمانهم بأبدية الموت.
لكن الرؤية للزمن اختلفت بعد الإسلام؛ لارتباط الزمن بالقدرة الإلهية وهو ارتباط فرض على المسلمين «تقدير الزمن و احترامه»، وجاء هذا التقدير والاحترام مُشرعا بالسنة النبوية الشريفة وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- « لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر»
وموقف الإسلام من الزمن أحدث فيما بعد ثورة فكرية لماهية الزمن ودلالاته انعكست من خلال الفلسفة الإسلامية، وأصبح الزمن جدلية في ذاته اختلط في تأويل حقيقته الحق بالباطل والصحيح بالفاسد.
ثورة فكرية انطلقت من جدلية أسئلة: هل الله هو الزمن أو الزمن صفة من صفات الله؟ وهل الوجود هو الزمن أو الزمن هو الوجود؟ وهل الوجود أسبق من الزمن أوالزمن كان قبل الوجود؟ هذه الأسئلة التي ظلت محتوى تحليل «ماهية الزمن وعلاقته بالله « وخلقت صراعا بين النقلي و العقلي.
فالزمن عند ابن رشد ليس أحاديا في ذاته بل هو متعدد، فهناك زمن قبل كل زمن،وهناك زمن بعد كل زمن، ويدلل على هذا القول بقوله تعالى «هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء»-هود7-
وقوله تعالى «يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار»-48 إبراهيم-
ولذلك يقول الكندي « لا يُمكن أن يكون زمانا لا نهاية له بالفعل في ماضيه ولا آتيه».
والأشاعرة لا يبتعدون كثيرا عن رؤية ابن رشد والكندي، فالزمان «سيلان» كما وصفوه غير مستقر فهو «ذرات متصلة كل ذرة تُمثل آنًا، و»الآن» هي وجود كائن يأتي ثم ينقضي، وهكذا تستمر حركة الزمن من «آن» طارئة ثم تذهب و»آن» قادمة؛ لكن لا يوجد اتصال بين آن وآن وإنما هي آنات منفصلة، وهو خلاف قول ابن رشد الذي يرى الزمن ماهية تنطوي على كم متصل.
وأظن أن فلاسفة المسلمين لم يقدموا شيئا جديدا في مجال الزمن يختلف عماورد في الفلسفة اليونانية بنسخها المتعددة إلا في مسألة واحدة «شبكة التعليلات فيما يتعلق بمصدر الزمن و تحولاته «التي تنطلق من العقيدة الإسلامية.
لكن بقية منظومة فكرة الزمن هي متأثرة بالفلسفة اليونانية كفكرة اللامتناهى كما وردت عند جميع فلاسفة المسلمين وحركة الزمن المستدير التي وردت عند ابن سينا، باستثناء الغزالي.
لقد شكّلت جدلية الزمن صراعا بين رجال الدين و الفلاسفة؛ حين ربط الفلاسفة الزمن بالله سبحانه وتعالى، في حين رأى رجال الدين أن الزمن هو مخلوق من مخلوقات الله «لا يتوهم عاقل أن الله هو الزمان؛ فإن الزمان مقدار الحركة،والحركة مقدارها من باب الأغراض والصفات القائمة بغيرها: كالحركة والسكون..ولا يقول عاقل أن خالق الله هو من باب الأغراض و الصفات»-ابن تيمة-
وبذا انقسم الزمن في تفسيره إلى قسمين القسم الأول: كونه جزءا من ماهية الله-تجلى الله عن كل ماهية- باعتبار أزليته وأبديته كما ورد عند الفلاسفة والقسم الآخركونه مخلوقا من مخلوقات الله.