حامد أحمد الشريف
أشعر في كثير من الأحيان ألّا قيود على المبدع، فهو يستعذب انتهاكها والخروج عليها، ويملك من الأدوات والقدرات ما يعينه على ذلك؛ والجميل أنّ خروجه يخلق لنا حالة إبداعيّة متفرّدة وأصيلة، فالجمال الحقيقيّ إنّما هو - في أصله - خروج عن المألوف، وكسر للقواعد المتعارف عليها، وإلّا لفقدَ قيمته من تكراره وابتذاله؛ فما أسهل أن نؤطِّر البشر على محدَّدات بعينها نزعم أنّها هي المقياس الحقيقيّ للجمال، متناسين أنّ التزامهم بها يعني تشابه نتاجهم، وتكرُّر حدوثه، وفقده لأصالته، وتدنّي قيمته. وهو ما لا يرتضيه الإبداع الحقيقيّ لمخرجاته، كما لا يَقنعُ به المبدعون لإبداعاتهم، إذ إنّهم يسعون جاهدين ليكونوا نسجاء وحدهم، لا يشاركهم أحد في ابتكاراتهم وتجلّياتهم، وليس ثمّة طريق أمامهم لفعل ذلك سوى التحرُّر من القيود والانطلاق في فضاءاتهم الواسعة، وإن كان لهذا التحرّر والانطلاق أيضًا ضوابط إبداعيّة تتعلّق بجمال المنتَج الجديد، ومنطقيَّته المعقولة، وقبوله من بعض الشرائح إن لم يكن معظمها؛ والأهمّ من ذلك كلّه هو قدرته على كسر القيود دون افتضاح أمره، وبالتالي هروبه من المساءلة والمحاسبة من القيّمين على هذه المحدَّدات، الذين لا يتوانون عن محاسبة كلّ من يتعدّى عليها ويستبيح حماها. ولعلّ ما يقوّي هؤلاء المبدعين، وقوف المحبّين للجمال في صفّهم، وإنصافهم، ونصرتهم على التقليديّين المتزمّتين في تقيّدهم بالضوابط ممَّن لا يرون شيئًا غيرها.
هذه التحدّيات قد تجعل الخروج عن الأطر العامّة منوطًا بحفنة قليلة من البشر، يملكون القدرة على تحقيق هذه الموازنات الصعبة، ولا يعبؤون بمن يخالفهم، فالمبدعون بكلّ بساطة، هم أناس خارجون على قوانين الجماعة ومحدّداتها، ولا يؤمنون إلّا بقدراتهم الخلّاقة، خلاف أنّهم يفتقرون إلى الانضباط بكلّ أشكاله وألوانه، ولا يولونه أيَّ اهتمام إن وقف حائلًا بينهم وبين شطحاتهم وجنونهم؛ لذلك يصعب تأطيرهم وقولبتهم، وأقصى ما يمكنهم فعله في هذا الإطار، اتّخاذهم من المحدّدات الفرعيّة نطاقًا رحبًا يلعبون فيه؛ ما يجعلنا نضيع بين التزامهم أو تجاوزهم، إذ إنّهم يستطيعون ببراعة شديدة الوقوف في منطقة الوسط التي لا تجيز لنا رفض نتاجهم، في وقت نشعر بريبة ونحن نقبله.
بالطبع لا يعنينا من ذلك كلّه إلّا ما يتعلّق منه بالكتابة والسرد تحديدًا. فكما هو معلوم، أنّ الالتزام بالقوانين الكتابيّة، والتقيُّد بما جاء فيها، بالطريقة الحرفيّة التي يطالب بها بعض النقّاد، ويقاتلون من أجلها، ويوظّفونها للنيل من الأعمال والتقليل من قيمة كتّابها، يضعنا أمام سرديّات مبتذلة تطغى عليها الصناعة، ولا قيمة لها في الميزان الإبداعيّ، وإن أُعليَ شأنها من قِبَل هؤلاء، وتصدّرت قوائم الجوائز، وكثر الحديث عنها. ذلك ما يجعلنا نرى النقّاد الذين يحملون معهم معاول يهدمون بها كلّ بناء يخرج عن النسق المعتاد، قتلةً مأجورين، يستهدفون الإبداع والمبدعين، سواء أكان ذلك عن جهل أم عن سوء طويّة، ففي كلا الحالتين المقتول هو الإبداع الذي لا حياة للسرد بدونه، ولم يخلق الجمال إلّا من أجله.
لذلك، أجد أنّني اليوم سأقيم حفلة شواء كبيرة احتفاءً بأحد المطلوبين من هؤلاء القيّمين على مناهج السرد وأساليبه وقوانينه الوضعيّة، وهو سارد انتهك - في ظنّي - معظم قوانين السرد، ولم يتقيَّد إلّا بالخطوط الرئيسيّة التي لا يقوم السرد إلّا بها، وعاث في باقي الفروع فسادًا، وأجهز على بعضها دون شفقة ولا رحمة. ولعلّ اللافت، أنّه كان مقنعًا في تجاوزاته! ما يعني أنّه سيُغري غيره بفعل ما فعله، وسيشكّل جبهة في وجه المتنطّعين في الأدب وسدنته. وهو ما جعلني أخصّص هذه القراءة كاملة لرصد تجاوزاته الإبداعيّة، بشواهدها التي تدين إبداعه، وتجيز لمن يريد تقديمه إلى المحاكمة محاسبته وإصدار الأحكام ضدّه؛ وإن كنت أظنّه، بالقدرات التي يمتلكها مدادُ قلمه السخيّ، قادرًا على الهروب مرّة أخرى، وتجاوُز الأنظمة، واستكمال رحلته الإبداعيّة.
الشاهد هنا، قبل الخوض في ما قام به هذا السارد من أرباب السوابق الإبداعيّة، القول صراحة أنّني، وإن كنت سأرصد وأتحدّث عمَّا قام به من تجاوزات، فإنّني لا أستطيع إخفاء محبّتي لما قام به، وتأييدي الصريح له، وسعادتي بالانضواء تحت لوائه. ولعلّي أتمادى وأقول مراهنًا، إنّ ضبطه وإحضاره لن يجدي نفعًا، طالما عرف القوانين، وعلم جيّدًا كيف يحتال عليها ويتجاوزها، بل ويوظّفها لصالحه؛ وقد يكون في محاكمته شيوع تجاوزاته، واتّخاذها منهجًا يتّبعه الباحثون عن الجمال، وربّما أسّس لمدرسة مشاغبين تحمل اسمه...
لن أطيل أكثرًا من ذلك، وسأبحر معكم في ثنايا عملٍ سرديٍّ مميَّز، يُعَدُّ من أجمل الأعمال السرديّة التي قرأتُها، دون ربطه ببلد أو ثقافة معيّنة، أو بلغة أو بنوع من أنواع السرد الروائيّ، أو بزمن من الأزمنة؛ وهو من الأعمال القليلة في الحقبة الأخيرة، التي تأخذ بشغاف قلبك، وتدفعك للتعلّق بها، وتديم التفكير في مجرى أحداثها وفي أبطالها، فتحزن لحزنهم وتفرح لفرحهم. والحديث هنا هو - بالطبع - عن رواية «مسعود» للكاتب السعودي عبدالله النجدي الذي لن أعود لذكر اسمه مرّة أخرى، فقد أنجز ما عليه وترك لنا كتابًا قيّمًا ننجز بحقّه ما ائتمننا عليه؛ هذا الكتاب الذي يقع في ثلاثمائة وإحدى وتسعين صفحة من القطع الصغير، صادر عن دار أثر السعوديّة في العام المنصرم ؟؟؟؟م. وهو رواية اجتماعيّة تمتطي صهوة التاريخ لتعبر بنا الصحراء وصولًا إلى تداخلها مع المدنيّة الحديثة في بداية ظهور النفط في الجزيرة العربيّة، والذي كان أوّل التقاء حقيقيّ بين بدو الجزيرة وحضر باقي حاضرة العالم العربيّ، والعالم أجمع، حيث اكتفى الكاتب بعيّنة منهم متمثّلة بلبنان بالدرجة الأولى، ومصر على استحياء. علمًا أنّه لم يستحضر حاضرة الجزيرة العربيّة، ولا أعلم إن كان ذلك متعمَّدًا، أو أنّ سياق السرد فرض ذلك، أو أنّه يريد مشاغبتنا باختياراته غير المبرَّرة؛ فالفضاء المكانيّ المستهدَف تمثّل بمنطقة تُعَدُّ من أطراف بادية الشام والعراق، وأطراف صحاري الجزيرة العربيّة، وتحديدًا المنطقة الرعوية المتاخمة لصحراء النفود شمالًا، التي كانت عند نشوء السرديّة - أو لنقل في إحدى أزمنتها - لا يقطنها غير البدو الرحّل. ثمّ يذكر منشآت النفط الحديثة التي نزلت بهم كالصاعقة، دون ترتيب مسبق.
لعلّ اللافت في الرواية، أنّ تفلّت الكاتب من القوانين، وعدم انصياعه لها، ظهر بوضوح - أوّل ما ظهر - في تمرّده على التأطير والقولبة، إذ لم تكتفِ الرواية ببُعدها الاجتماعيّ، وتلتزم بمحدّداته، بل امتدّت لتحتلّ مكانة كبيرة داخل الروايات الفلسفيّة، بما تضمّنته من فلسفات عميقة امتدّت بطول السرد، كما أنّها أقحمت نفسها في تبويبات الروايات الفكريّة، فهي لم تغفل الفكر، بل وتعمّدت الإتيان به في مواضع يصعب حصرها، فاحتاجت لمجهود كبير من الكاتب لتبريرها وقبولها - وهو الأمر الذي سنذكره تباعًا في الجزء الثاني من هذه الدراسة - في وقت يمكن النظر إليها من خلال تمازج الثقافات والتقائها، كونها من الروايات التي تربط بين ثقافات عدة (عربيّة وعالميّة). وبصورة واضحة يمكننا القول، إنّ خروج الكاتب عن النسق المعتاد بدأ مع هذه التعدّديّة، وقد أجاد وأبدع في كلّ نوع من هذه الأنواع الروائيّة، حتّى أنّه يمكننا إدراجها - وإن بشيءٍ من التحفُّظ - ضمن الروايات الرومانسيّة أيضًا.
نأتي الآن على ذكر غلاف الكتاب الذي أتى، رغم بساطته، معبّرًا، يحمل في طيّاته معانيَ عميقة جدًّا، تعبّر عن مجمل العمل، باتّخاذه اللون الأبيض المشرّب باللون الرماديّ الخفيف كأرضيّة، وفي ذلك إشارة عميقة إلى رماديّة الحياة التي نعيشها، وتوسّطها، وعدم اتّجاهها نحو القطبيّة، أو ما نسمّيه باللون الأسود الأحاديّ، أو اللون الأبيض الناصع الأحاديّ أيضًا؛ وفي ذلك إشارة ذكيّة من الكاتب، الذي - يقينًا - كان له دورٌ في اختيارات المصمّم، وموافقة دار النشر على التصميم؛ فالعامل الأوّل على النصّ هو المؤلّف، ونوعيّة المؤلّفين المهووسين بالتفاصيل لا يتنازلون عن أمر كهذا. وممّا يؤكّد سطوة المؤلّف على الغلاف، رمزيّته العالية جدًّا، والمرتبطة بماهيّة السرد وسيرورة الأحداث والبناء الأسلوبيّ في مجمل العمل؛ فالحياة - كما تُصوّرها الرواية - تقع في منطقة الوسط، إذ لا شرّ مطلق فيها ولا خير مطلق، وبعض الأفعال يختلف ظاهرها عن باطنها، يتداولها الخير والشرّ. وهذا المعنى لم يأتِ من قراءتنا العمل فقط، بل من الإشارة الواضحة الجليّة المتمثّلة بالخنجر الذي يتوسّط الغلاف، والوردة البيضاء التي ترافقه وتلتصق به، وهو أمر ظهر بجلاء في الشخصيّة الأساسيّة المحوريّة - شخصيّة مسعود البدوي، الذي أشغل خنجره وبارودته في أبناء البادية، فقتل الكثيرين منهم، ممّن يعرفهم بأسمائهم وصفاتهم، ومن لا يعرفهم وكانوا في مرمى نيرانه العمياء، في وقت بدا في مواضع أخرى يحمل قلب طفل صغير. لقد جمع بذلك بين القسوة المفرطة والعاطفة الجيّاشة، من خلال تلك الشخصيّة المركّبة المليئة بالمتناقضات، فهو ضعيف خوّار، وقويّ جبّار، في آن، ومهادن وقاتل ومحب، بالضبط كما يظهر في تصميم الغلاف؛ إذ كان خنجرًا قاتلًا في خاصرة أعدائه والمتجاوزين على القيم التي يؤمن بها، فبطش بعدد كبير منهم، في وقتٍ جسّد نقاء وصفاء وشاعريّة الوردة، حين كانت تسقط أدمعه عند أقلّ عارض.
خلاصة القول، إنّ الغلاف كان عتبة مهمّة جدًّا، أشار إلى الإبداع الذي ينتظرنا، ولم يكن فيه ما يؤشّر على التقيّد بأيّ نظام، وشكّل بدايةَ كسْر المؤلِّف للقيود؛ فالوردة يستحيل اجتماعها مع الخنجر إلّا إذا كان السارد يتعمّد استفزازنا بتجاوزاته واختراقه لكلّ المواثيق الفنّيّة. وليته توقّف عند ذلك وترك لنا العيش بسلام ومحبّة مع سرديّته، فلم تكن هذه إلّا بداية لطريق طويل مليء بالتجاوزات الإبداعيّة الموثَّقة التي سيحاسَب عليها، عاجًلا أم آجلًا، في محكمة الإبداع الأساسيّة.
لم يسلم حتّى الإهداء الذي عادة ما يكون خارج نطاق اهتمام السارد من الناحية الفنّيّة والأسلوبيّة، ويمنحه لمن يريد تخليد ذكره، أو تسديد دَينه، أو الاعتراف بجميله، أو توظيفه لإظهار قضيّة ما، أو الإشارة إلى مجتمع أو فكرة. وغالبًا، لا يخرج الإهداء عن مثل هذه الأطر، ونادرًا ما يوظَّف لإظهار استعلاء وفلسفة وفكر وقدرات الكاتب، إذ إنّ ذلك لا يُعَدّ موضعها مطلقًا، مهما كانت نرجسيّة الكاتب وغروره الكتابيّ. بينما نجد هذا التجاوز قد حدث هنا مع رواية «مسعود»، في تعمُّد الكاتب استحضار التورية في غير موطنها، والجمال الأدبيّ الأخّاذ دون الحاجة إليه، وهو يوظّفه في إبراز قدراته الكتابيّة العالية، وفلسفته، وفكره، في وقت بدا وكأنّه يتحدّانا أن نرفضَ تجاوزه هذا، أو نشتمَّ تعاليه من خلاله، أو ننكرَ صدقه وحميميّته؛ وهو ما حدث بالفعل، فالإهداء حملَ بُعدًا وجدانيًّا يأخذ بتلابيب المشاعر، في الوقت الذي كان فيه قمّة في الكتابة السرديّة المتعالية، المضمّخة بالفلسفة والفكر، وهذا ما يمكن رصده كتجاوز آخر، استطاع الكاتب تمريره بذكاء شديد وبحرفيّة عالية، إذ كان يسعه إهداء العمل إلى أخيه الذي مات قبل أن يراه، بأيّ عبارة بسيطة تعبّر عن المعنى المراد، لكنّه لم يشأ ذلك، بل أراد متعمّدًا جعلنا نتوقّف طويلًا عند إهدائه، مبهورين بجماله الكتابيّ وصدقه، عندما نجده يقول: «إلى أخي الذي لم أره لكننّي شاهدته في دموع أمّي»! وبالفعل نحن في كثير من الأحيان نرى الآخرين في مشاعر من يحبّهم، وقد يدفعنا ذلك لمحبّتهم من دون أن نلتقي بهم.
أمر آخر لفتني كثيرًا، وهو استخدام الكاتب، من البداية، لعبارات فلسفيّة متعالية، تحمل أفكارًا خلّاقة؛ فرغم جمالها وعذوبتها وعمقها المثري، إلّا أنّه وضعها بداية قبل إقامة أيّ علاقة مع المتلقّي الذي يُعَدّ قارئًا جديدًا لا تربطه بالكاتب أيّ وشيجة، ولا يزال في طور استكشاف أبعاد العلاقة وتثمينها، واتّخاذ قرار استمرارها أو انقطاعها مبكّرًا، كان فيه مخاطرة كبيرة قد تتسبّب في فقدان الاتّصال مع القارئ المتلقّي، دون الحاجة لذلك. فمساحة السرد الكبيرة كفيلة باستيعاب كلّ أفكاره وفلسفاته، ولم يكن بحاجة لدخول هذه المعركة غير المأمونة العواقب، مبكرًّا. لكنّه قرار المبدع عندما يضع في رأسه كسر القوانين وتجاوزها، ويستعذب المنازلات الإبداعيّة التي من هذا النوع، فنجده هنا يبتدئ العمل بعبارات منفصلة، كانت غاية في الروعة والجمال، ومكتنزة بالمعاني، لم نستطع رفضها لقيمتها وتأثّرنا بها. واعتمد في ذلك على فهمه العميق للنفس البشريّة التي لا تهتمّ بتطبيق القوانين، إن كان التجاوز لمصلحتها. فالجمال الآسر والافتتان بعبارته التي قال فيها على لسان طفل من «عفيرا» (وهو حيّ من أحياء «عرعر» القديمة حسب ما ورد في الحواشي) «الذاكرة: دفتر قديم باهت، يبقى حبره جديدًا لامعًا».
أيمكن رفض تقديم مثل هذه العبارة الجزلة على انطلاقة السرد؟! وهل يمكن تأخيرها؟!
لا أظنّ ذلك، فهي بالفعل أتت في موضعها، فالعمل في مجمله كان مرويًّا من الذاكرة التي يراها أغلبنا تخلو من القيمة الحقيقيّة، إذ إنّها مجرّد اجترار لأحداث قديمة لم يعد لنا سلطة عليها، ولا فائدة تُذكر من استحضارها، كونها - على الأغلب - قد مضت بحلوها ومرّها. وهو ما يرمز إليه الدفتر القديم الباهت. فالذاكرة، بالفعل، تمثّل غالبًا هذه الصورة الصادقة، لكنّها بالطبع ليست كذلك لمن اكتوى بنارها، وعاش حرّاتها، وكاد يهلك في لجّة صقيعها، كما هو الحال مع مسعود الذي كانت ذاكرته، رغم قدمها، كونها تحمل مدًى زمنيًّا امتدّ لتسعين عامًا، إلّا أنّ حبرها كان جديدًا بالفعل، لم يجفَّ في نفسه، ما جعله يرويها وكأنّها حدثت في يوم روايتها؛ وفي ذلك إشارة بليغة تحدّثنا عن بعض الذكريات التي لا يمكن نسيانها مهما تقادمت، إن كانت تحمل أحداثًا جِسامًا، كالذي تعرّض له العجوز مسعود في مسيرته الحياتيّة الحافلة التي كانت بالفعل تستحقُّ أن تُروى، وذلك في بداية حديثه مع إيلي، عندما قال له بتبجّح وبغرور مبرَّر، إنّه سيروي له حكاية عظيمة؛ وسأُورده كما جاء على لسانه صفحة ؟؟، حيث قال له خلال حوار ماتع: «لقد أخبرتَني من قبل أنّك تكتب القصص، أليس كذلك؟
- بلى، بلى.
- سأمنحك قصّة غريبة وعظيمة، وستكذب أنت وتدّعي أنها من خيالك». (انتهى كلامه).
الشاهد هنا أنّ من يكمل العمل سيتأكّد من صدق وواقعيّة ذلك العجوز التمساح، كما كان يصفه «ويلي»، وأعني بذلك، السارد الأساسي «إيلي»، كما كان العجوز مسعود ينطق اسمه طوال العمل. وبالمناسبة كانت هذه من المواضع التي تشير إلى ذكاء الكاتب، وقدرته على بناء علاقة رائعة مع المتلقّي، من خلال اعتماده الواقعيّة المقنعة الطريفة؛ فكبار السنّ - كما هو معلوم - يتراكب الاسم على ألسنتهم بفهمهم وسمعهم، وربّما مغازيهم الخفيّة، ومشاغباتهم العذبة، ولا يعودون عن ذلك مطلقًا، حتّى وإن تبيّن لهم لاحقًا خطأ نطقهم له، نجد أنّهم لا يعيرون مثل هذه الأشياء أيّ اهتمام، ويمضون سادرين في غيّهم. أقول إنّ السرد يؤكّد بالفعل أنّنا أمام سرديّة تتعلّق بذاكرة لم تصدأ بعد، وظلّ حبرها برّاقًا لامعًا وكأنّها للتوّ كتُبت؛ لخّص لنا ذلك في عبارته الاستهلاليّة الإبداعيّة، وإن كان لم يقف طويلًا عندها، بل أتى بعبارة أخرى، إمعانًا في تحدّي قدرتنا على معاتبته رغم كلّ تجاوزاته على آليات السرد وقوانينه، فوضع لنا عبارة على لسان إيلي يقول فيها: «لا يوجد شيء مهمٌّ في هذا اليوم، ولا حتّى غدًا، لأنّ أمس استولى على كلّ شيء».
هي بالتأكيد مثل غيرها من العبارات الجزلة التي سنمرّ عليها تباعًا في إطار حديثنا عن هذه السرديّة المتفرّدة، وفيها إشارة فلسفيّة عميقة، توقفنا على المنهجيّة التي يريدها السارد، بتوظيف الاسترجاع أو ما يسمّى عالميًا «بالفلاش باك»، وهي طريقة السرد المعروفة التي تعود بالحكاية للخلف انطلاقًا من الحاضر. أراد الكاتب أن يطلعنا على ذلك، لكنّه تعالى علينا في عبارته، فوضع هذه المعلومة في قالب فلسفيّ وهو يخبرنا أنّ الأمس هو المسيطر والمهيمن على حياة بعض البشر، وفي ذلك إشارة خفيّة لما سيسرده علينا. ولعلّ اللّافت أنّنا - رغم ذلك كلّه - نجدنا نستعذب قوله، ونتقبّله من دون شكاية. فالجمال وحميميّة العبارة واتّصالها بنا كمتلقّين أذكياء، كفل لها المرور، ولم ننظر إليها من زاوية التعالي، رغم وجوده.
في موضع آخر نجد أنّ كلّ قوانين السرد لا تحبّذ استخدام المقدّمة للتعريف بالعمل السرديّ، وتعتبر ذلك ممّا يضعف السرد ويقلّل من قيمته، ويُجمع النقّاد وحتّى المتلقّين بأنّ السرد يُدلَف إليه مباشرة، من دون مقدّمات مبوّبة ومنفصلة، وللكاتب الحقّ فقط في التمهيد لحكايته من خلال السرد نفسه. فكان حريًّا بنا ونحن نرى الكاتب يخالف هذه القاعدة، أن نُظهر امتعاضنا ورفضنا لهذه البداية التي امتدّت على مساحة تسع صفحات تشكّل الفصل الأوّل من الرواية، وفي ذلك تلاعب وتذاكٍ يستفزّ المتلقّي؛ فلو ذكر صراحةً أنّها مقدّمة، وعنونها بذلك، لربّما قبلناها، واحترمنا صدقه، ومرّرنا ضعفها. لكن، أن يضعها ضمن فصل، وعندما ننتهي منه نجد أنّنا قرأنا مقدّمة للعمل السرديّ، فذلك ما لا يمكن قبوله.
إنّ ما حدث معي- وأظنّه سيحدث مع الجميع- أنّنا سنتقبّل تجاوزه ونتماهى معه؛ فقد كتبه بلغة سرديّة جميلة، وبأسلوب قصصيّ مشوّق، ووظّف خلاله كلّ فنون السرد التي نعرفها، وأدرج المقدّمة ضمن الحكاية، في أحد أزمنتها وأمكنتها، حتّى غاب عنّا أنّها مقدّمة، وربّما لم ننتبه لذلك، لولا إمعانه في تحدّينا وهو يذكر لنا صراحة في ص ?? عبارةً تشير إلى أنّ ما سبق لم يكن جزءًا من الحكاية، وإنّما مقدّمة، في قوله: «الآن، إلى الحكاية». وفي ذلك ما لا يدع مجالًا للشكّ أنّنا كنّا نقرأ مقدّمة، فكيف قبلناها على ذلك النحو، ولم تشعرنا بضعف العمل أو بدايته غير الموفّقة؟!
هذا ما جعلني أشعر مبكّرًا أنّ كسر القواعد إنّما يقع ضمن أهداف السّارد، ويراهن على أنّه قادر على تمرير ما يريد اعتمادًا على لغة أدبيّة باذخة الجمال، وإمساكه الحقيقيّ بزمام السرد، وقدرته على تطويعه وإخضاعه لسلطته الإبداعيّة، فأصبح بدءًا من هذا الفصل، الصراع قائمًا بيننا لرؤية مَن سينتصر في نهاية الأمر، قوانين السرد أم تجاوزاته النجديّة.
نأتي الآن على أمر غاية في الأهمّيّة، وفيه ما يقطع الشكّ باليقين، ويشير بوضوح إلى تجاوزات الكاتب الممنهجة والمدروسة بعناية، وتلاعبه بنا كقرّاء، وعدم الاكتفاء بذلك، بل سعيه لجعلنا من المصطفين الأخيار المصفّقين له، والمؤيّدين لكلّ تجاوزاته عن سبق قناعة واختيار، وفي هذه المرّة، استخدم لعبة الثنائيّات بطريقة مبتكرة، وهو يستعرض الماضي والحاضر، والبادية والحاضرة، والبدو والحضر، والمدن والصحاري، والعلم والجهل، والبساطة والتصنّع... ويتنقّل بنا بين هذه الثنائيّات المتضادّة، في كامل العمل؛ وكانت ثيمة ظاهرة لهذه السرديّة، رغم بعدها عن بعضها البعض وتنافرها في كثير من الأحيان.
لم يكن في ذلك - كما هو معلوم - أيّ مأخذ سرديّ، لولا أنّه أظهر هذه التناقضات من خلال لعبه بالفضاء المكانيّ والزمانيّ للعمل، ولم يوحّد الزمان والمكان كما هو معتاد، وإنّما تنقّل بين أماكن عدّة لا رابط بينها، وبين أزمنة عدّة لا أنساق بينها؛ وفي كلّ هذا تحدّيات وصعوبات جمّة، تصدّى لها بشجاعة، مختارًا - كعادته - كسر القيود، والانطلاق في فضائه الخاصّ، لنجده قد صنع لنا فضاءً يمثّل خليطًا من أزمنة عدّة، واكبت بدايات الدولة السعوديّة الثالثة، وما قبل ذلك، فترة نزاعات القبائل المسلّحة، أي قبل توحيد المملكة، وخلال الفترة الزمنيّة المتأخّرة التي عاشتها الدول العربيّة بعد هزيمة ?? واستفحال القوّة الصهيونيّة، وتمكّنها من بسط سيطرتها على الجولان وكامل فلسطين وسيناء.
وكأنّه بذلك يريد أن يقول لنا، إنّ الزمن الروائيّ أيضًا يمكن أن يكون لعبة في يد السارد، يُظهر من خلاله إبداعاته، ويحطّم كلّ قيوده. وقد نجح بالفعل في ذلك من خلال إتيانه بثلاثة أزمنة رئيسة، وتنقّله بينها بسلاسة قد لا يشعر بها القارئ أحيانًا، ما يجعلني أقول، إنّ خليطه هذا لا أظّن إلّا وسيعجب كلّ قارئٍ وناقد، ولن يجد أيّ تثريب عليه. وبالنسبة للمكان، فعل به السارد ما فعل بالزمان، فمن المعلوم أنّ الرواية عادة تتّخذ فضاءً سرديًّا محدّدًا تنطلق من خلاله في سردها، وتأتي باقي الأمكنة كشذرات تشهد أجزاء بسيطة من الحكاية الأمّ، بينما لم يكن الأمر هنا بهذه البساطة؛ فالمكان أيضًا كان خليطًا جمع أمكنة عدّة، وكانت جميعها رئيسة ومهمّة ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسيرورة الأحداث، تصدّرته «عرعر» المدينة الشماليّة من جزيرة العرب التي تشكّل حلقة وصل بين ثلاثة نطاقات جغرافيّة متباينة كثيرًا في ما بينها. ونحن نتحدّث هنا عن العراق، بما يمثّله من تاريخ وحضارة وأرض خصبة وتمدّن وبشر لهم صفات معيّنة تختلف عن غيرهم؛ وبين الشام بما تحمله أرضه أيضًا من صفات لا تختلف كثيرًا عن العراق إلّا في نوعيّة البشر الذين يقطنونها؛ وبين حدود صحراء الجزيرة التي تختلف كلّيًّا عن ذلك كلّه في البشر والحجر، وكل متعلّقات المكان؛ وبين نقطة الاتّصال بين حضارة المشرق والمغرب، وأعني بذلك لبنان التي شكّلت فضاءً مكانيًّا مهمًّا، شهد الكثير من حلقات السرد، ووُظّف بشكل كبير في تناميه، رغم بعده وعدم اتّصاله، إلّا من خلال خطّ التابلاين الذي استخدمه السارد بذكاء شديد ليجمع لنا كلّ هذه الأمكنة المتناقضة في وعائه المكانيّ الجميل، ويتّخذها فضاء مكانيًّا تناوبَ المرور عليه السارد الأساسي «إيلي» اللبنانيّ، وسنيده السرديّ «مسعود»، الذي أخذ في كثير من المواضع زمام السرد من «إيلي»، مستحضرًا أماكن عدّة جديدة؛ فسمعناه يطري كربلاء، بينما تركَ الحديث لـ «إيلي» عن أقسام من بيروت والأشرفيّة في لبنان، فيما كانت صحراء الجزيرة العربيّة بامتدادها وتنوّعها مشاعة بينهما، متّخذَيْن من «عرعر» مكانًا رئيسًا شهد الجزء الأكبر من الرحلة السرديّة الماتعة.
خلاصة القول، إنّ المكان لم يظهر بشكله المعتاد، بل كان تحدّيًا للسارد، إذا ما علمنا أنّه أظهر انعكاسه على أبطاله، في لغتهم وثقافتهم وحواراتهم وسلوكيّاتهم وحتّى أخلاقيّاتهم، فكان لعدم التزامه بالحدود الضيّقة للمكان، واستباحته الحدود الجغرافيّة الديموغرافيّة بطريقته الذكيّة، ضريبة مدفوعة استهلكت جهده ووقته واستنفذت حيله، حتّى يجعلنا نقبل بكلّ تجاوزاته، وكالعادة نصفّق لها، وننحاز لكلّ أفعاله المكانيّة ولا نجد في أنفسنا حرجًا ممّا فعل وممّا سيفعل، ونسلّمُ تسليمًا.
وللحديث بقيّة نستكملها لاحقًا، بإذن الله...