سراب الصبيح
حضرت مجلسًا علميًا قرأ به الشيخ آيات من سورة البقرة، حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، فإذا بي أسرح عن تلاوة الشيخ، وأتأمل في هذه الآيات.
خصَّ الله جماعتين من الناس: الأولى تسأله من خير الدنيا، والثانية تسأله من خيريّ الدنيا والآخرة. وأما المقصود في «أولئك» فقد جاء في تفسير ابن كثير قوله: «قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً فأنزل الله {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فأنزل الله {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، ولهذا مدح من يسأله الدنيا والآخرة. وجاء في تفسير القرطبي قوله: «قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} هذا يرجع إلى الفريق الثاني، فريق الإسلام؛ أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة. وقيل: يرجع «أولئك» إلى الفريقين؛ فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا» وفي موضع يليه يقول: «قال ابن عباس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} هو الرجل يأخذ ما لا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب.» هذا، والله أعلم.
وهنا أصل إلى الأمر الذي في نيتي أن أحثك عليه؛ وهو أن المؤمن الفطن من يعمل لدنياه وآخرته، فلا يتنطع في الدين، ويهمل معيشته، كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «هلك المتنطعون»، ولا ينشغل في أمر الدنيا عن الآخرة، بل يعطي لكلتيهما نصيبًا من العناية، ومن ذلك الدعاء.
إن الله تعالى وعدنا بالإجابة في نص قوله في سورة البقرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وهذا وعد صريح من كرمه سبحانه، لكن، وبالنظر إلى الآيات السابقة، يتبيّن أن الجماعة الثانية أقرب إلى قبول الله؛ تلك التي تسأله من خيريّ الدنيا والآخرة، ومن كريم عطفه أيضًا أنه لم ينص برفض قبول دعوة الجماعة الأولى. لكن، وبالمقارنة بينهما، يتبين لدى الإنسان الذي يعمل عقله من منهما إلى الله أقرب، ومن دعوته أقرب إلى القبول. كما أنه سبحانه لم ينسَ، ولا يخفى عليه ارتباط الإنسان بدنياه أكثر من آخرته؛ لأن العقل البشري لا يعرف إلا ما شاهده بعينيه، ولذلك فالآخرة أبعد عن عقله من الدنيا؛ فقد قدم الله لذلك ذكر حسنة الدنيا على الآخرة.
ولذلك فمما يرفع المؤمن وينقيه ويقرب دعوته من القبول؛ أن يسأله الله من خير الدارين، ولا يُغلّب إحداهما على الأخرى، شريطة ألّا يفعل ذلك كإجراء روتيني حين يطلب من الله، بل يسأله من خير الآخرة وهو يستحضر قلبه كاستحضاره إياه حين يطلب من خير الدنيا؛ لعل قبول الدعوة عند الله يكون أقرب.