حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
الوراقة مهنة عرفها العرب في العصور الوسطى وهي تضاهي مهنة الطبع ومهمة النشر، والوراق هو ذلك الإنسان الذي يمتهن حرفة الوراقة من نسخ الكتب وتصحيحها ومقابلتها وتهذيبها وزخرفتها انتهاء بتجليدها، وتاريخ الوراقة مليء بأسماء علماء كبار، ومشاهير عظماء، امتهنوا حرفة الوراقة وارتبطت أسماؤهم بها كابن النديم صاحب (الفهرست) وياقوت الحموي صاحب الكتابين المشهورين (معجم الأدباء) و(معجم البلدان)، أهم من ذلك أن هذه الحرفة تعد من أشرف المهن وأجلها، كما قال عالم الاجتماع الأول (ابن خلدون) في أمهات الصنائع الشريفة: (وأما الشريفة بالموضع، فكالتوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب)، ووصف الفقيه الشافعي (تاج الدين السبكي) الوراقة في كتابة (معيد النعم ومبيد النعم) بأنها من أجود الصنائع، لما فيها من الإعانة على كتابة المصاحف وكتب العلم ووثائق الناس وعهودهم والسؤال الطارح لنفسه هو: هل امتهنت المرأة حرفة الوراقة؟ والتاريخ يثبت أن المرأة قد امتهنت حرفة الوراقة وأدهى من ذلك إبداعها فيها، فالرحالة الشهير (المقدسي البشاري)، (ت 380) وصف أهل الأندلس بأنهم (أحدق الناس في الوراقة)، لذا فالمرأة الأندلسية كانت تتقن الخطوط العربية الدقيقة، مما كانت مؤهلة لنيل رتبة الكتابة، وحرفة الوراقة، فولجت عالم هذه الحرفة الشريفة، ودخلت عالم المراسلات الرسمية، داخل قصور الأندلس وخارجها، ويروى لنا عبد الواحد المراكشي عن المؤرّخ الأندلسي أحمد بن سعيد بن أبي الفياض (أنه كان بالربض (جانب أوحي) الشرقي من قرطبة مئة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي الرفيع) ويعقب فيليب دي طرازي على هذا الحديث بقوله: (إذا كان بربض واحد هذا العدد، فكم كان عدد النساء اللاتي يكتبن في جميع أرباض قرطبة، التي بلغت ثمانية وعشرين ربضاً وذكر بعض المؤرّخين: أن جامع غرناطة كانت تعمل فيه ألف امرأة خطاطة بشكل يومي لنسخ الكتب.
والعصر العباسي تكتظ به نساء ورقات برعن في كتاب نصوص المعاهدات السياسية، كما عملن في دواوين الخلفاء وتولين مناصب قيادية كما حكى الجاحظ عنهن، وقد برزت أسماء وراقات عرفن بجمال النسخ، وجودة الحفظ فمنهن على سبيل التمثيل لا الاستيعاب والحصر:
- الخطاطة الشاعرة لبني عبد المولى عالمة بعلمي العروض والحساب وكانت كاتبة للخلية المنتصر بالله وورقاء بنت ينتات الشاعرة الطليطيلية (ت بعد540هـ)، وفاطمة بنت زكريا بن عبد الله الكاتب سنة (1036 - 427هـ) التي تلقت العلم عن والدها الذي كان يعمل وراقاً وكاتباً في بلاط الحكم الثاني، وعائشة نبت أحمد القرطبية أثنى عليها مؤرّخو التاريخ بقولهم: (أنه لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعادلها علماً وفهماً وأدباً وعزاً، وكانت تمدح ملوك الأندلس حسنة الخط تكتب المصاحف والدفاتر وتجمع الكتب التي تعنى بالعلم، ولها خزانة علم كبيرة توفيت عام 400هـ). وذكر أبو العلاء المعري في رسالة (الغفران) الجارية السوداء التي كانت تخدم بدار العلم ببغداد وقت الدولة البويهية ومهمتها كانت مساعدة الوراقين بأن تخرج الكتب للنساخ. وعلّها كانت وراقة تكتب وتخط وتنسخ، وممن مجدهّن التاريخ الوراقة صفية بنت عبد الله الكاتبة التي تفرغت لنسخ المخطوطات ونقلها، وعرف عن خطها، ورسم حرفها، البراعة والجودة والاستحسان، وفضل القيروانية وهي عالمة جليلة عرفت بجودة الخط وجماله وقد تركت مصحفاً كاملاً بخطها.
ويروي لنا المؤرخ صلاح الدين الصفدي أن أبا العباس بن الحطيئة الفاسى نسخ الكثير بالأجرة في مصر وعلم زوجته وابنته الكتابة، فكانتا تكتبان مثل خطة سواء. فإذا شرعوا في نسخ كتاب أخذ كل واحد جزءاً وكتبوه فلا يفرق بين خطهم إلا الحاذق. وحدثنا الكاتب العراقي عبد اللطيف جلبي (ت 1945م) أنه رأي بجامع الحيدر خانة في بغداد نسخة من قاموس (الصحام) للجوهري وهي بخط امرأة وراقة تدعى مريم بنت عبد القادر، في (القرن السادس) الهجري، وكتبت عليها : (أرجو من وجد فيه سهواً أن يغفر لي خطئي لأني كنت بينما أخط (الصحاح) بيميني كنت أهز مهد ولدي بشمالي), وأخرى تدعى الرضا بنت الفتح كانت كاتبة مشهورة في بغداد عرفت بكثرة ما ألفت ونسخت وتألقت، يقول عنها المؤرّخ الصفدي: (قد رأيت نسخة من ديوان أبي الحجاج بخطها)، وسيدة بنت عبد القادر العبدرية وكان من نسخها كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وكذلك ست نسيم والتي كان لها دور بارز في عهد الناصر الأموي وكانت خطها يقارب خطه، وعندما كبر وضعف بصره أمرها أن ترد على كل ما يصله من رقع ومكاتبات، وفاطمة بنت الحسن بن علي العطار (الأقرع) والشهيرة بأم الفضل البغدادية الكاتبة كتبت مرة ورقه لمحمد بن منصور الكندي وزير طغرل بك أول وزراء السلاجقة فانبهر بفصاحتها وأسلوب كتابتها فأعطاها ألف دينار، وعندما أرسل الخليفة المقتدد العباسي رسالة إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب فيها الهدنة بين بيزنطة وبغداد طلب منها أن تكتب بخطها الفصيح وعباراتها الجميلة المتقنة ولا ننس تلك البارعة في نسخ الكتب، ونقش التآليف، في غضون القرن التاسع الميلادي وقد أعجب بها أحمد بن صالح وزير الخليفة المعتضد فكتب عنها(كان خطها كجمال شكلها، وحبرها كمؤخر شعرها، ورقتها كبشرة وجهها وقلمها كأنملة من أناملها، وطرازها كفتنه عينيها، وسكينها كمويض لمحتها، ومقطتها كقلب عاشقها).
وكما اتخذ العلماء لهم وراقين يكتبون عنهم العلم فالبخاري ويحيى بن معين لكل واحد منهما راوية، والخليفة المعتمد كان له وراق يكتب شعره بماء الذهب، كذلك اتخذوا لهم ورقات فالحافظ المؤرّخ ابن الفرات، الذي كتب مئة مجلد في التاريخ كانت عنده وراقة جارية، تراجع ما ينسخه من الكتب، بل الشعراء أنفسهم كان لهم وراقات يكتبن عنهم الشعر ومثل ذلك جارية أبي العتاهية التي كانت تخط أدبه، وتكتب شعره بطريقة عجيبة.
وبعد:
فلقد أبدعت المرأة في التعليم والتربية والطب والسياسة والاجتماع، فقد أبدعت في وراقة الكتب ونسخها ومراجعتها ومنهن وراقات تطاولت أثارهن على مر السنين، وامتداد الحقب، وقدر مر بك أيها القارئ الطلعة قبل برهه أسماء نساء أبدعن بأصابعهن الدقيقة، وأناملهن الرقيقة في نسخ الكتب على تعددها، والمصاحف على جمالها، بخطوط وصفت بالبهاء والحسن والتفنن، بل هناك أسماء نساء شهيرات تجاوزن القنطرة، الزمان كالعالمة المحدثة الكاتبة العراقية (شهدة) والتي وصفها الفلقشندي على اتساع علمه وجلالة قدره، بما يحوي القول التالي: (كانت معجزة النساء، ومسندة العراق) كما أكد هذا القول الصفدي في كتابه: (الوافي بالوفيات).
مراجع المادة:
- الورّاقون وصناعة الكتابة في الحضارة الإسلامية. محمد المختار ولد أحمد.
- مكانة المرأة في الحضارة العربية الإسلامية. كنزه فتحي - مركز باحثات - 24 ديسمبر 2018.
- دور المرأة في كتابة وتطور الخط العربي. محمد عيد الخربوطلي - فرسان الثقافة 22 شوال 1433هـ
** **
- بنت الأعشى -