خالد محمد الدوس
تهتم العلوم الاجتماعية بدراسة السلوك الإنساني والذي يشمل جوانبه الاجتماعية والثقافية، وتضم العديد من العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم النفس والخدمة الاجتماعية والاقتصاد.
وتعود العلوم الاجتماعية إلى الأصول الإغريقية واليونانية القديمة، وتشكل تراثاً قوياً في تاريخ الفكر الاجتماعي بسبب استفسارهم العقلاني عن الطبيعة البشرية والأخلاق، ولذلك فإن علاقة العلوم الاجتماعية بالمجتمع الإنساني علاقة تفاعلية باعتبارها تؤثر على بنائه ومستقبله من خلال تمويل البحوث والدراسات العلمية والآثار التي تترتب على الموضعية العلمية.
ولقد اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع. ومن الخبراء في هذا المجال عالم الاجتماع الفرنسي من أصل روسي (جورج جورفيتش) الذي كان يعد من رواد علم الاجتماع القانوني في عصره، ومن الذين ساهموا في نشأة فرع علم الاجتماع المعرفة.. وميزوا بين الدراسات الاجتماعية في الجماعات الصغيرة والجماعات الكبيرة.
ولد العالم الراحل (جورج جورفيتش) في روسيا عام 1894، وبعد أن أنهى تعليمه العام حصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة الاجتماعية، وكان مهتماً بالقراءة عن المؤسسين الأوائل للمذاهب السياسية والقانونية فاجتمعت لديه ثقافة مزدوجة تقوم على (القانون والفلسفة الاجتماعية)، وزاد اهتمامه بالفلسفة أكثر بعد دراسته الجامعية في ألمانيا مما كان له الأثر في أعماله ومؤلفاته خاصة بعد تأليفه كتابه الأول (روسو وإعلان الحقوق) عام 1917، ثم كتابه الثاني (فلسفة القانون) عام 1922. وبعد أن غادر موطنه الأصلي في العشرينات الميلادية من القرن الفائت إبان حكم مؤسس الحزب الشيوعي الرئيس الروسي (فلاديمير لينين).. بسبب الثورة البلشفية في بلاده تنقل بين مجموعة الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، فعمل أستاذاً في جامعة براغ، ودرّس مقرر الحقوق حتى عام 1924 ثم غادر إلى فرنسا عام 1925 وحصل على الجنسية الفرنسية، وقام بالتدريس في (جامعة السوربون)، وقد أصدر كتابه الثالث بالفرنسية (التيارات المعاصرة للفلسفة الألمانية) عام 1930.
كان العالم الراحل مهتماً بالنظرية الاجتماعية والقانون فدفعه هذا الاهتمام الكبير إلى وضع أرشيف “فلسفة القانون وعلم الاجتماع القانوني” فصدر عدده الأول عام 1931 واستمر حتى عام 1940 ليصبح من رواد ميدان (علم الاجتماع القانوني) الأوائل، فشارك في تأسيس المعهد العالي لفلسفة القانون وعلم الاجتماع القانوني وشغل منصب أمينه العام. وفي عام 1937 نشر كتابه الذي يبحث في العلاقة بين الحياة الأخلاقية وفلسفة الأخلاق (الأخلاق النظرية وعلم الأخلاق) واتجه بعد ذلك كلياً إلى علم الاجتماع النظري بأطروحته الشهيرة “دراسة في تصنيف نظري للإشكال الاجتماعية” عام 1938, وفي مطلع الأربعينيات الميلادية سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأصدر كتابه (علم اجتماع القانون) الذي وجد أصداء من العلماء والباحثين في هذا الميدان الخصيب وأعيدت طباعته مرات عدة، وفي تلك الفترة شارك (جورج) في تأسيس المدرسة الحرة للدراسات العليا في ولاية نيويورك وأدار فيها المعهد الفرنسي لعلم الاجتماع، لكنه عاد إلى فرنسا عام 1945 ليزاول عمله الأكاديمي أستاذاً في علم الاجتماع في جامعة السوربون. ولاطلاعه وتجربته الثرية في علم الاجتماع الأمريكي تبين له ضرورة الالتقاء بين علم الاجتماع النظري والبحث التجريبي الأمريكي الذي كان ينتقده وصدر كتابه (علم الاجتماع في القرن العشرين)، ولغزارة علمه وعمق فهمه وافقه الواسع في هذا الميدان نشر كتابه (النزعات المعاصرة لعلم الاجتماع) عام 1950 عن نظريته العامة لعلم الاجتماع ثم تبعه في عام 1955 كتابه (الحتمية الاجتماعية والحرية الإنساني).
وما يميز العالم (جورج جورفيتش) ورغم نشاطه المهم لم يبعده عن اهتماماته الاجتماعية السياسية حيث اتخذ موقفاً معلناً لمصلحة البلاد المستعمرة وتحديداً دولة (الجزائر) مما عرضه لمحاولة الاغتيال إرهابية من قبل الجماعة الوطنية اليمينية بعد أن قصف مسكنه بقنبلة أثرت عليه صحياً وبالتالي تدهورت حالته المرضية إلى وفاته عام 1965.
كان العالم الراحل من العلماء الأوائل الذين ساهموا في ولادة فرع علم الاجتماع المعرفة.. مع المؤسس الحقيقي لهذا الميدان الخصيب العالم المجري كارل مانهايم (1893-1947). كما كان من رواد (النظرية المعرفية) في علم الاجتماع التربوي بعد أن عرف علم الاجتماع المعرفة أنه دراسة الترابطات التي يمكن قيامها بين الأنواع المختلفة للمعرفة من جهة, والأطر الاجتماعية من جهة أخرى. وعلم اجتماع المعرفة يركز على الترابطات الوظيفية القائمة بين أنواع وأشكال المعرفة بحد ذاتها, ثم بينها وبين الأطر الاجتماعية, وظهر ذلك من خلال اهتمام العالم (جورج جورفيتش) بتحليل الروابط بين العلاقات الاجتماعية والمعرفة وميز بين ثمانية أشكال خاصة بها وهي: المعرفة النظرية للعالم الخارجي, والمعرفة الرشيدة, والمعرفة السياسية, ومعرفة الأنا والآخر, والمعرفة التقنية, والمعرفة العلمية, والمعرفة الفلسفية, والمعرفة الأسطورية اللاهوتية.
رحل هذا العالم الفذ في عقده السابع وبقيت أعماله الخالدة ومنجزاته البحثية وإسهاماته العلمية في تراث علم الاجتماع التي ما زالت تدّرس في الجامعات العالمية حتى واقعنا المعاصر.