يسير مرة أخرى عبر ذات البوابة
ولا شيء سوى الذكريات ككل عام
تصطف أمام بصره كما هي
بترتيبها الذي يعرفه
لتعطيه المشاعر التي يعرفها، والتي تلدها له الأوهام
حطام الأحلام ذاتها، الألم ذاته، والخيبات اللا منتهية.
ولأنه يعرف جيداً نقاط ضعفه، يفركها ببراعة
ليستعيد كل لحظة، كل خيبة، كل دمعة
يسير وهو يفكر
لا شيء مجرد أفكار جوفاء
تدخل وتخرج عبر رأسه
ولكنه مع ذلك يُفكر
لم يعد يذكر طعم الراحة
طعم السعادة، الطمأنينة، الحب
لم يعد يذكر شكل الضحكات
ودفء الأحضان
لم يعد يذكركيف يحب ويعطي
كيف يكون قنوعاً وراضياً بحياته، بعائلته
بكل منهم يحبونه ولكن لم يبادلهم الحب
بكل من تعذبهم هذه الهالة السوداء التي تحيط به
ورائحة الهزيمة التي تفوح منه
لم يعد يعد يذكر سوى القلق الذي يلبسه كل مساء
والغصة التي تحتشد في حلقه دون أن يبتلعها أو يُخرجها
لم يعد يذكر سوى صوت حطام قلبه الذي يعرفه جيداً
وآخر خطوات الغياب
غيابها الأبدي
...
يسير مرة أخرى
هائم في الأوهام ومتخبط الخطى
أمام هذا الطريق الطويل
لوهلة يفقد ذاكرته، ينسى وحدة
ينتفض في الطريق ويبحث عن ذراعها ليتكئ عليها
يبحث عن صوتها، عيناها، أحلامها التي كانت
ويستبد به الخوف حين يفكر
كيف يعرفها وهو الذي لم يعد يذكرها
مَن هي؟ تلك التي أربكت خطواته
ينظر أمامه ولا يرى سوى الخوف
فكل شيء تغير، تبدل، مضى عليه الوقت
كما مضى عليه
كل شيء له الآن رائحة الفقد
رائحة الوداع الأخير
حتى وجهها الذي لم يعد يذكر كيف كان
له رائحة، رائحة يعرفها، يميزها
شيء ما يشتعل في قلبه، في عقله، في جوارحه
شيء يشبهها ولكن لا يستطيع أن يصفه
لأنه خاص بها، ينزل عليه كالخشوع
وما إن يستفيق حتى يفقد تلك الرائحة،
حتى يفقدها وتتفتت في رماد الذكريات
...
مرة أخرى يعبر ذات البوابة
وكأن الزمن ما هو إلا لعبة
لكي يعركه، يغسله، ويعيد ترتيب أحلامه
وكأن هذه البوابات ما هي إلا خدعة ليستعيد نفسه
ليتحرر مما هو عالق به
وها هو يعبر ذات البوابة
ولكن
الذكريات لم تعد تطيق السفر الطويل
وتريد أن تستريح
هي فقط ذكرى واحدة
لم تعد تطيق التقدم معه
ذكرى واحدة لم تعد تريد النهوض
ذكراها.. التي يعرفها جيداً ويحسها
يعبر وعمر الأحلام يصبح أقصر من أن يعيش حتى يصل
فيراها خلفه
أحلامه التي لم تعد معه
وخامله تبدد ذاتها بجانب الطريق
يجلس بجانبها
لا ظل لها سوى ظله
والقمر يراقبهما من بعيد
القمر يريد للأحلام أن تأتي إليه
أن تعيش مع النجوم
يجلس بجانبها ويبكي، هي ذاتها التي كان يجلس بجانبها وهو طفل
ذاتها التي كان يحملها في الطريق إلى المدرسة،
والتي يسكن إليها في المساء وهو يبتسم
ولكن الطفل كبُر
والآن هو يعرف أن القمر يريدها
ويعرف أنها أصبحت مستحيلة على هذا الجسد
يبكي لأنه لم يكن يفهم
لم يكن يحسب عمرها معه
لم يكن يدري أن للأحلام عمرا أيضاً
يبكي لأن قلبه يريدها، جسده الكهل يريدها
ولا يستطيع أن يجدها
يبكي لأن تلك التي أحب
عالقة به
يجرها في رأسه أينما رحل
العام تلو العام
ولأنها هذه المرة
قررت أن تمضي مع القمر
أن تستريح من السفر
وتخرج من قلبه إلى الأبد
لأنها هذه المرة
قررت أن تخرج من ذكرياته
وتُمحى كأنها لم تكن
يبكي لأنها رحلت ولأنه هذه المرة سمح لها بالرحيل
ولم يعد يذكر أي شيء يخصها
حتى رائحة وجهها رحلت
حتى ملامحها، ضحكاتها، حضنها، أغنياتها، أحلامها
رحلت لأن الرحيل قد حان
ولأن السماء تريدها
...
هذه المرة أيضاً
يعبر البوابة ولكنه خفيفًا كظل عصفور
وحالماً شبقاً وجائعاً للحياة كطفل رضيع
يعبر وهو يريد أن يستكشف، يبتهج، يرسم الحلم الجديد
ويضحك، يضحك على أي شيء وكل شيء
يريد أن يُعطي، أن يُحب ويُحب أن يمنح الطمأنينة لمن حوله
يمضي لأنه تخلى عن الألم، عن شعور العجز
ولأنه سمح للذكريات أن ترحل، أن تتبدد
سمح لهذه الروح أن تضيء
أن تنتشله من حطام أحلامه، من أكاذيب عقله
من أوهامه
وهو الآن يرى لأول مرة أين تحط قدميه
يرى أن ما أمامه ليس إلا شيء يخصه وحده
يرى حياته التي يجب أن تكون
وكغريب في بلادٍ غريبة
غريب في جسدٍ غريب
يريد أن يبدأ قصته
أن يروي حلمه من جديد.
** **
- علا الحوفان
Twitter:@ola29x