ناهد الأغا
تطرب الأذن التي تعشق قبل العين أحيانا، ويحلق الشعور عالياً كما في السماء الصافية تحلق طيور النورس، راسمةً على زرقة المياه، لوحةً ناصعة الألوان.
أبحر في مياه بحر جميل، حائرة، لست أدري أهو جمال الكلمات أم عذوبة اللحن أم هو الصوت الشجي الذي زين بحنجرته الذهبية أبدع الأوصاف وأجملها، وأصدق المشاعر التي عصفت في وجدان من صاغها، ونظم حبات عقدها.
حلم جميل لا أتمنى اليقظة منه، عندما تخلد مسامعي إلى أغنية «كالحلم جئت وكالحلم غبت» وأيقونة الإبداع فنان العرب محمد عبده يصدح صوته الجميل بها، وصدقت قريحة الشاعر والأديب الفذ الدكتور غازي القصيبي رحمه الله الذي جاد بها منشدا، وأؤكد أنك لست في الصبوة الأوحدا، وأقول: إنّ الشاعر الأديب غازي القصيبي رحمه الله لقد اقتفى أثر من سبقه من فحولة الشعراء وأفصحهم بديعا وبيانا، تاركاً قلبك يتحدث، فليس لسانك بذاع سرا.
كم أضفت للجمال جمالاً، وأضفيت حسناً يا صوت الثراء، وكنز الفن الجميل الغني، عندما جاد صوتك بكلمات نزار قباني في قصيدته «القرار»، مغنيا إياها غناء فصيحا بالغ الجمال:
من ذا يقاضيني وأنت قضيتي
ورفيق أحلامي وضوء نهاري
فلا ألق ولا بهاء يعلو فوق عذوبة الصوت، وحسن الأداء، وعبق التألق بفصيح الشعر وأصدقه، حين أكمل فنان العرب محمد عبده غناء أبيات فصيحة من هذا القصيدة «القرار»:
لا سلطة في الحب تعلو سلطتي
فالرأي رأيي والخيار خياري
كيف لي كيف ألا أطيل النظر، وأصغي سمعي مع دقات العود المنبعثة من ملك إحساس العود موسيقار الجزيرة العربية عبادي الجوهر، وهو يرسل أجمل الألحان بإنشاد أبيات نسجتها فصاحة بليغ غابت الشمس عند حسن بيانه ولحقت مغيبها الكواكب، في حضرة مشهد رسم مكنونه شاعر مبدع هو سفير القصيدة الدكتور عبدالعزيز خوجه، قائلاً في قصيدته «لن أعاتب» وأنشدها عبادي الجوهر بإحساسه، متاغما بألحانه وصوته:
حتى لو رحل الوجود جميعه
خلف المشارق والمغارب
حتى وإن عصفت رياح الشوق تاخذني
سأخمدها
وأهتف إنني يا قلب تائب
ارحل كما رحلوا
فإني لن أعود
ولن أعاتب
ويتلألأ البصر كلما نظرت عيناي لما كان على يدها مما نالته من نقش زين معصمها، ما لم تنله يدك العازفة على أجمل أوتار وأعذبها، وأكرر ذاك التعجب الذي تعجبه الشاعر «الوأواء الدمشقي»:
وخلّفتني طريـاً وهي قائلة:
تأمّلوا كيف فعل الظبي بالأسد،
قالت لطيف خيال زارني ومضى:
بالله صدق ولا تنقص ولا تزد،
في قصديته «نالت على يدها، ما لم تنله يدي»، وبعثت الروح فيها بصوت الفنان عبادي الجوهر.
وتطيب الآلام مهما عظمت بالهمسة ويعافى من وهن عوده، وخارت قواه حينما يقع صداها على مسامعه، باعثةً في الروح مدادا من غوث، يبهج فؤاد المرء ويسعده، وهي تكتمل بصدى صوتك الشجي حين يترنم بها الفنان عبادي الجوهر، مرسلاً بغنائه بلغة عربية فصيحة أمل الشاعر الذي جاست عبارة القصيدة في نفسه، الشاعر طاهر زمخشري رحمه الله، حين همست في خلده هواجس كامنة، فقال وأبدع بقصيدته «همسه»
ما زلت مبحرة، وطال سفري، ولست أدري متى أعود، فلا زال في ترحلي الجميل، ما يجعلني لا أقوى على الرجوع، ولا أريد الخروج من ذلك الأفق الرحيب وأنا هائمة بين الكلمات وجزالتها ورقتها وتدفقها ومعانيها، والألحان وعذوبتها وانسيابها بأصوات تعلو كخفق البنود كلما صدحت، حين تلاقيت وموعد مع تاريخ فني يشدو طربا، لأصافح أعذب الأحاسيس في احتفاء بهيج لتنتعش الذاكرة بموسيقى تخلد فيها إلى أبعد الأزمان حضوراً وتألقاً.
فعلى مسرح أبو بكر سالم في مدينة الرياض، كان الموعد مع أجمل الأصوات العربية، وأكثرها ابداعا وجمالا، حين تغنى الأبيات الفصيحة بأجمل الألحان، فيضفي بهاء المكان رونقا في زمن، لا تمل المكوث فيه، حيث «مهرجان الغناء بالفصحى» الرائد في فكرته، الجميل في وجوده، والأروع بما ضمه من عظيم النفائس.
فكم أحيي في ذكرياتي الجميلة صوت الفنانة أصاله نصري حين تألقت على خشبة المسرح، في فعاليات مهرجان الغناء الفصحى، عندما غنت بصوتها الشجي قصيدة «قارئة الفنجان» للشاعر الراحل نزار قباني، مستذكرة جمال أيام سلفت رافقت مسامعي كلماتها.
وزادت بهجة نفسي، بصوت الفنان العراقي كاظم الساهر، الذي شكل ظاهرةً جميلة بأدائه المتميز بغناء الشعر الفصيح، وهو يتألق على منصة المهرجان بأعذب الأبيات وجميلها، من أروع ما تفطر به ابداع الشاعر نزار قباني، من «زيديني عشقا» و«حافية القدمين» و«إلا أنت» إلى أن اختتم بـ «قولي احبك»، وكم كان لترداد الجمهور لكلمات هذه القصائد التي حفظوها من عظيم فرح وسرور يستقر في النفس.
تحلق الروح كطائر، يحث جناحيه في جو فسيح، باحثا عن أثر أريج ياسمين ونرجس عندما يستقر سمعي لصاحبة الصوت الأنيق الفنانة السيدة ماجده الرومي، التي رسمت على مسرح مهرجان الغناء الفصيح أجمل اللوحات وأنصعها، كلما غنت شعرا فصيحا، بأغنيات أحبها الجميع ورددوها دون تململ.
فكم تسحر مخيلتي «كلمات ليس كالكلمات» ليكون بعدها «وعدتك» التي أبدع كتابتهما نزار قباني، وكل ما غنته يبعث في النفس اشعاعا لا ينطفيء.
اختتم قولي، كم أوجدت فكرة لم يسبق إليها أحد كيانا متناسقا، وبناءً أحسن صنعا بإقامة مهرجان فريد من نوعه وغايته، ويحيي ما كان في سالف الأزمان وأفضلها لقد أعاد مهرجان الغناء بالفصحى عبق من مضى في عصور ساد فيها فصيح الشعر وأجزله، وكان الفخر بمن ينظمه، ومن يكون فيهم فحولته، فعاد الألق بروح اليوم، وذكرى الأمس.
وأغدو شاكرةً ما دام قلمي يخط بحبره على صفحات الثناء والتقدير، لذلك الجهد الرفيع لوزارة الثقافة، التي تعتز بالهوية الوطنية وثوابتها، وتراثها العريق، الذي تشكل اللغة العربية الفصحى روحه وقلبه، الذي تحيا به، ولا تدخر جهدا ما استطاعت لذلك سبيلا.