في يوم الأربعاء (18 جمادى الثانية 1444هـ)، الموافق (11 يناير 2023م)؛ انتقل إلى رحمة الله العم الشَّيخ مشوِّح بن سليمان بن حمود المشوِّح عن عمر يناهز السابعة والتسعين عامًا قضاها في العلم والعمل وخدمة دينه ووطنه وملكه.
لقد وُلد العمّ مشوِّح -رحمه الله- في بريدة في بيت ثراء ووجاهة؛ حيث والده العم الشيخ سليمان بن حمود المشوِّح كان أحد الشخصيات المعروفة في سوق بريدة، وأحد التجار والأثرياء؛ حيث ورث تجارته وماله من والده الثري الشَّهير المعروف حمود بن مشوِّح المشوِّح -رحمه الله-، والذي كان شخصية معروفة، تحدَّث عنه العديد من المؤرِّخين، وعلى رأسهم معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي في «معجم أسر بريدة»، وأنه كان له دفتر مداينات ضخم وكبير يبين حجم ثروته وماله مع أهالي بريدة بل وخارجها.
إضافة إلى أنه كان شخصية يحظى بالاحترام والتقدير من الجميع، وكان مجلسه يفد ويرد إليه العديد من الشخصيات، ومنهم بعض أمراء بريدة.
ووُلد العم مشوِّح في هذا البيت الكريم، أما والدته فهي حصَّة بنت عبدالله المعارك، وهي شقيقة القاضي الشيخ عثمان بن عبدالله المعارك، والشاعر المعروف علي بن عبدالله المعارك.
ترعرع ونشأ في هذا البيت الكريم من والديه، وحظي بالتربية والتوجيه من قبلهما، ثمَّ ألحقه والده بكتَّاب عبدالعزيز بن صالح الفرج؛ أحد الكتاتيب المعروفة في بريدة، فتعلَّم بعض مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم، وحفظ أجزاء منه، ثمَّ التحق ببعض الأعمال التجارية مع والده، وبدأ يعمل فيها، ثمَّ التحق بأعمال وظيفية مبكِّرة عند بداية افتتاح الجوازات، فعمل في مخفر الخفجي وغيره من المنافذ، ثمَّ بعد ذلك لمَّا تمَّ تأسيس وإنشاء المديرية العامة للجوازات والجنسية عام (1380هـ) التحق بقسم الجنسية، فترقى فيها حتى صار مديرًا ومسؤولًا عن الجنسية، وكان يحظى بالاحترام والتقدير والثقة والقَبول من جميع المسؤولين، وكان له أيادٍ كريمة في مدِّ يد العون والمساعدة لكل من يحتاج إلى ذلك.
وبعد سنوات من العمل الوظيفي في أعلى المسؤوليات في إدارة الجنسية طلب التَّقاعد، وواصل أعماله التجارية التي ابتدأها من والده، وكان له نصيب وافر -ولله الحمد- منها، واستقرَّ في مدينة الرياض بعد تنقُّله في عدد من الأماكن، وكان في فترة من الفترات ملازمًا لأخواله في تنقلاتهم، مثل الشيخ القاضي عثمان بن عبدالله المعارك، حيث سافر معه إلى لينه وطريف والحايط والحويط، وخاله الشَّاعر علي المعارك، الذي كان يحفظ كثيرًا من قصائده وأبياته، ويردِّدها في المجالس التي يحضرها.
ثم بعد ذلك واصل أعماله التجارية، بها، وكان له في ذلك إسهامات مباركة مع أهله وذويه وأسرته.
أذكر أنَّنا عندما بدأنا أوَّل اجتماع للأسرة عام (1407هـ)، كان من أوائل المبادرين إلى دعم ومساندة هذه الفكرة وتشجيعها والحضور إليها، ولم يتخلَّف -طيلة تلك السنوات الطويلة- عن اجتماع واحد من اجتماعات الأسرة، وكان أوَّل من تبرَّع للمقرِّ الرئيس لأسرة المشوِّح في بريدة؛ الذي أصبح أحد الأماكن التي -ولله الحمد- يجتمع فيها أبناء الأسرة منذ ما يزيد على (35) عامًا، إضافة إلى الدخول الوقفية من هذا المكان الذي كان أكبر الداعمين له العم مشوِّح -رحمه الله.
العم مشوِّح امتاز بصفات عديدة، لعلِّي أوجزها في الآتي:
أولًا: أخلاقه وسماحته وبشاشته، فكان مدرسة ومضرب مثل في حسن الخلق، والتَّعامل مع الآخرين، وكان -كما ذكرتُ آنفًا - يبادل الجميع بابتسامته وبشاشته، ويتَّصل على من هم في مقام أولاده وأحفاده، يسألهم عن حالهم وصحَّتهم، وكان دومًا يباشرني بالاتصال مع قدره ومكانته، فيتَّصل ويسلِّم ويسأل ما بين الفَينة والأخرى.
أمَّا مجالس الأسرة واجتماعها السنوي فكما ذكرت أنَّه لم يتخلَّف سنة واحدة عن هذا الاجتماع، إضافة إلى أنَّه كان مضرب المثل الذي قل نظيره في حضور المناسبات الاجتماعية والمشاركات، سواء كانت في الأفراح أو الأحزان، فكان أوَّل الحضور في جميع المناسبات؛ الزواج وغيرها، يحضر من الرِّياض إلى بريدة في كلِّ مناسبة، ويلِحُّ على أبنائه وأحفاده أن يوصلوه إلى مقرِّ الزَّواج والحفل.
وكان في السنوات الأخيرة يشكو من المرض والتعب، بل إنه في بعض المناسبات كما علمت منه، كان يأتي إلى بريدة ليحضر مناسبة الزواج، ثم يتخلَّف بسبب الوعكة والألم الذي أصابه من الطريق ومشقة السفر.
لم يكن يثنيه أو يحجزه أو يمنعه من الحضور شيء، وكان يلحُّ على أبنائه، وقال: إذا لم تذهبوا بي، فسوف أتصرَّف وأذهب أنا. فيأتي به أبناؤه وأحفاده -جزاهم الله خيرًا- إلى كلِّ مناسبة، حتَّى قبيل أشهر عدة حضر مناسبة في بريدة، وهو على عربته، ويشكو من آلامه، فكان مشاركًا للجميع طيلة حياته وعمره -رحمه الله-.
أما صلته مع إخوانه وأخواته، فهو كذلك عجيب ولا نظير له، فهو البارُّ، والذي يصل رحمه في كلِّ مناسبة، يتَّصل ويسأل ويقدِّم العون والمساعدة لكل من يحتاج إلى شيء من ذلك.
وممَّا فتح الله عليه أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قد منَّ عليه بأبناءٍ بررة كرام، وهم أبناؤه الأنجال الذين قاموا على برِّه والعمل تحت توجيهه، وهم:
ابنه الأكبر الأستاذ فهد، والأستاذ عادل، والشيخ عمر، والشيخ بسام، والشيخ الداعية طارق، والقاضي الشيخ حسين، والدكتور حمود، والأستاذ ياسر، والأستاذ أسامة، إضافة إلى بناته هند، والجوهرة ونورة.
فهؤلاء جميعهم كانوا يقومون حوله بالرِّعاية والاهتمام.
يحدثني ابنه بسَّام؛ الذي قام بالإشراف على العديد من أعماله التجارية وتحصيل العقارات لأملاكه أنَّه كان ينهره دومًا من التضييق أو المشقة على المستأجرين.
يقول الأخ بسَّام: إنَّه في أحد المرَّات طلبت منه أن نزيد الأجورات على بعض أصحاب الشُّقق والمحلَّات الذين لم تتغير أجوراتهم منذ عشرين عامًا، فنهرني وقال: لا تزد على أحد، اتركهم على الأجورات السَّابقة نفسها.
ومثل ذلك يقول: إنَّ بعض المستأجرين من غير السُّعوديين كان لا يُسدِّد الأجورات للشُّقق، فكنت أقول له: لعلَّنا نفصل الكهرباء عنهم، فكان يغضب أشد الغضب، ويسألني بحنق وغضب شديد: أين تريدهم يذهبون؟، هل ينامون في الشوارع؟. وكان يغضب من أي تصرُّف على هؤلاء المستأجرين.
من المواقف أيضًا أنَّه كان يطلب أحد الأشخاص ما يقرب مليون ريال، فتهرَّب هذا الشَّخص، وصدر عليه حكم قضائي، وغادر الرياض إلى المدينة المنوَّرة، يقول ابنه بسَّام: إنَّني رغبت في أن أذهب إلى المدينة لكي أبحث عن هذا الشخص؛ ليسدد المبلغ، فمنعني والدي وقال: اتركه، لو كان عنده شيء لجاء وسدَّد لنا.
وبعد فترة علمتُ أنّه توفي صاحب الدَّين، فيقول: أتيت مع أخٍ لهذا الشخص إلى والدي، وأخبرناه بوفاته، فبكى والدي كثيرًا، وقال: أُشهدكم أنَّني سامحته عن هذا المبلغ». وهذا يدل -بلا شك- على سموِّ نفسه وسماحته وطيبه وخلُقه وجوده وكرمه، إضافة إلى الأعداد الكثيرة من الأشخاص -كما يقول الأخ بسام- الذين كانوا يطلبون القرض الحسن منه، فيستلفون منه مبالغ من خمسين إلى ثلاثين إلى أربعين ألف، وكان لا يسائلهم ولا يتَّصل بهم، ويقول: من كان لديه شيء فسيأتي ويسدِّد لي. كان سمحًا -رحمه الله- في بيعه وشرائه وتعامله.
وكم كان لنا في أسرتنا منه التوجيه الحسن، والكلمات الطيبة في كل مناسبة أو محفل، وكانت أفعاله أكثر من أقواله، ولم يكن يكثر الكلام والنُّصح والتوجيه، لكنَّنا وجدنا ذلك في تصرفاته وأعماله وبشاشته وخلقه وصلة رحمه وإحسانه إلى القريب والبعيد، ومشاركة النَّاس في كلِّ ما يحتاجون إليه.
لقد كان -رحمه الله- منذ عرفته منذ طفولتي وهو ذاكر لله -عَزَّ وَجَلَّ-، لا يتوقَّف عن ذكر الله في كلِّ وقت، ففي كلِّ دقائق يُكثر من كلمة التَّوحيد، وترديدها والاستغفار وذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والمبادرة إلى المسجد والصَّلاة -كما ذكر لي العديد من جيرانه وأقرانه وزملائه- أنَّه كان أوَّل من يدخل إلى المسجد وآخر من يخرج منه، وكان يكثر من ذكر الله -سبحانه وتعالى- والتَّسبيح والأذكار وأداء النوافل والرَّواتب، لا يتوقَّف عنها دومًا.
فاختصَّ -رحمه الله- في سنواته الأخيرة في التَّفرغ للعبادة والزُّهد في هذه الدنيا، وأوكل جميع أموره المالية والدنيوية إلى أبنائه كي يقوموا بها، وكان في مجلسه يستقبل من يأتي إليه ذاكرًا عابدًا، مستغفرًا ربه -عَزَّ وجَلَّ-.
وكنت أزوره واعتذر منه عن التقصير في حقه فيبتسم ويقاطعني ويقول أبدا أعذركم جميعاً.
ولا شكَّ أنَّنا افتقدنا في أسرتنا أحد الشخصيات البارزة الذين كان لهم الأثر البارز في التوجيه للأبناء والأجيال، وكذلك حرصه على اجتماع الأسرة والتفافها وإصلاح ذات البين، وعدم التفرق والتنازع، فكان مدرسة أخلاقية في كلِّ أعماله وشؤونه -رحمه الله.
العزاء في هذا إلى زوجته وأبنائه البررة الكرام الذين يقومون - إن شاء الله- من بعده بواجبه من الأعمال التي نهض بها ليستمروا عليها، وأن يكونوا مثل ما ربَّاهم عليه من الأخلاق الفاضلة وحسن التعامل والعمل الصالح المبرور.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يبارك في أبنائه الكرام، وأن يغفر للعمِّ الغالي مشوِّح، وأن يتجاوز عنه، وأن يجعل ما أصابه في الأشهر الماضية من مرض ولَأوَاءٍ وشدَّة تكفيرًا له، ورفعة له في درجاته، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمَّد.
**
- محمد بن عبدالله المشوِّح