* كلمة رثائية بعد وفاة حبيبنا وصديقنا الدكتور مبارك بن محمد الحرشني (المعبدي) (رحمه الله).
فاتحة:
(1) ليس هذا رثاء ولكن...
في حضرة الموت، ينتهي كل شيء..
كل شيء..
ولا يبقى سوى الموت.
نعم..
جاءنا الموت.....
جاءنا كالطير.. يلقط من صدرك الأغنيات..
ومن كفك بعض أصابعها..
ومن قلبك الأوجه الطيبة.
(2) صباح الأحد 15-6-1444هـ، وحوالي الساعة التاسعة يرن هاتفي.. وأنا بين يقظة ونوم.. فأرد وإذا المتصل الابن ماهر مبارك المعبدي.. قلت في نفسي لعله خير.
سألته عن الصحة والأحوال فأجاب باقتضاب (والحزن من صوته بادي) وثنيت بالسؤال عن والده فقال لي: (الوالد مات ادع له بالرحمة والصلاة عليه في الحرم المكي بعد صلاة الظهر والعزاء في جدة).
قال ذلك.. فدارت بي الأرض وحار في فمي الجواب، فاسترجعت وحوقلت وعزيته ودعوت له.. وأغلق الجوال.
يااااا الله
تسع وستون من عمر الفتى ذهبت
إذ جاءها الموت لا يبقي ولا يذر
كأنها ساعة طافت بصاحبها
أو بعض وقت به الآمال تختبر
(3) قلت في نفسي مات مبارك، وكلنا سنموت. والموت سنة الحياة، لكنه إذ يأت فجأة فالقلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يغضب الرَّب ونتصبر ونحتسب والله ولي الصابرين المحتسبين.
مات (مبارك) وكلنا سنموت. ولكن تبقى له الذكريات الصادقات، والاعمال الصالحات، والدعوات المستجابات..
عرفته (رحمه الله) عام 1398هـ تقريباً، كنت في تعليم جدة وجمعتنا سوياً رسالة التعليم والقيادة الإدارية هو وكيل في المتوسطة الحديثة وأنا وكيل للحديبية المتوسطة، ثم جمعت خطانا في المرحلة الثانوية فكنت مديراً لثانوية جرير بجدة وهو وكيل بثانوية علي بن أبي طالب في جدة أيضاً، ثم جمعتنا مرحلة الماجستير في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وتزاملنا طوال المرحلة حتى نلنا الشهادة عام 1405هـ، وجمعتنا الرسالة العلمية التي كنا نشتغل عليها فهو تخصص في النظم الإدارية والمالية في تهامة عسير خلال الإشراف السعودي وأنا تخصصت في حكومة الأدارسة في عسير والمخلاف السليماني. ولتقارب الموضوعين وتداخلهما كانت تحركاتنا العلمية وزياراتنا المعرفية، ولقاءاتنا الأكاديمية تجمعنا يومياً، فصار بيننا من الحب والود والمعرفة ما زادته الأيام رسوخاً وصداقة وأخوة.
مبارك المعبدي (رحمه الله)، روح طاهرة نقية، وسيرة عطرة زكية، دخلت داره ودخل داري.. وصار بيننا (عيش وملح) كما تقول البادية، سافرنا سوياً نطلب العلم والتاريخ والوثائق ومقابلة الرجال (علماء ومشايخ وطلاب علم)، ولن أنسى رحلتنا سوياً إلى جازان لمقابلة الأديب المؤرخ محمد العقيلي (رحمه الله) وما وجدناه من عنت الطريق، وخراب السيارة التي نقلتنا - وهي سيارة الجيب – في قصة طريفة ومؤلمة لعلي أحكيها في سيرتي الذاتية.
كان حريصاً على المعرفة من أصولها الوثائقية فلم يدخر جهداً ولا فراغاً إلا وكان له جولة بحثية في ربوع المملكة وخارجها. أذكر أنه داعبني ذات مرة فكتب لي قصيدة طويلة يفتخر فيها بأنه وصل في زياراته المتكررة لمنطقة جازان إلى أقصى محافظاتها (الطوال) بحثاً عن الوثائق يقول فيما أذكر من أبياتها:
مريت أنا (جيزان) وعديت (الطوال)
واما انت في (جيزان) ما عديتها
رحم الله أخي الدكتور (مبارك) الذي كان سنداً وأخاً وزميلاً وصديقاً حميماً، واصل تعليمه بكل عصامية وجدية حتى نال شهادة الدكتوراه، وحقق طموحه الأكاديمي فنقل خدماته من وزارة المعارف إلى كلية المعلمين بتبوك ثم كلية المعلمين في جدة ثم جامعة الملك عبدالعزيز بعد انضمام هذه الكليات لوزارة التعليم العالي.
ألَّف الكتب، ونشر الرسائل، وألقى المحاضرات فكان علماً من أعلام (خليص) وقبيلة (معبَّد) و(الحروب) جميعاً.
ولما قارب الستين من عمره ألقى عصا الترحال العلمي والوظيفي ليدخل في عداد المتقاعدين فأقامت له القبيلة حفل تقاعد مهيب وكبير تشرفت بحضوره فرأيت الحب والتقدير في كل من شارك في هذا الاحتفال ورأيت الهدايا التي قدمت وسمعت الكلمات الشعرية والترحيبية فازددت فخراً بهذه القامة الوطنية التي اختيرت للمشيخة في (معبَّد).
ليتلئذ قلت في نفسي هنيئاً لك كل هذا الحب والتقدير وكفاك الله شر المتربصين الحاسدين وما هي إلا سنة أو أقل وسمعت بأنه دخل في وعكة صحية مفاجئة وتبعتها جلطة في الدماغ وتتتالت عليه الأمراض حتى استسلم للقعود في البيت، والتردد على المشافي داخلياً وخارجياً.
زرناه قبل وفاته بعام تقريباً (أنا والزميل عجلان الشهري والزميل سالم الطويرقي) وسهرنا معه في داره العامرة واستأنسنا به ودعونا له.. ثم انقطعت أخباره وقل التواصل مع ابنيه ماهر ومحمد ويبدو أنه ساءت حالته الصحية حتى جاءه اليقين.. والحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعين.
مات (مبارك)، فاسودت النهارات في عيني وطافت بي الذكريات النديات فقلت لأبنائه هذه الأبيات:
الموت حق علينا قد عرفناه
في كل حين ينادينا فنلقاه
يختار من كانت الأرواح منزلهم
وما جزعنا.. لأن الراحم الله
مات الحبيب (أبا صالح) ويا أسفى
على الحبيب (مبارك) إذ فقدناه
رحم اببه حبيبنا وأسكنه فسيح الجنات.
وختاماً:
«ليس هذا رثاء...
ولكن:
في حضرة الموت
ينتهي كل شيء.
كل شيء..
كل شيء..
ولا يبقى سوى الموت.
كما قال الشاعر سعيد السريحي (حفظه الله).
**
- د. يوسف حسن العارف