د.فوزية أبو خالد
الجنة/مكتبة أمي الشريفة نور -رحمها الله-
لا أستطيع أن أمضي في الكتابة عن سيرة المكتبات في تجربتي دون التوقف لأقبل أهداب أمي وهامة أبي على دورهما الفذ في هذه المسيرة فعلى رغم أن جيلَي الوالد والوالدة لم يكونا من الأجيال المحظوظة التي حظيت بفرصة التعليم النظامي أوحتى التعليم التقليدي إلا في ندرة النادر فقد كانا على اختلاف بيئتهما بين الحجاز ونجد من الأرواح المحظوظة بذلك الظمأ الذي لا يرتوي من الشغف المعرفي، ومن حب العلم بل تقديسه. فقد كان أبي يتمتع بشخصية تعشق الحياة الطليقة وكأنه لم يعش تحت سقف قط ولم يغادر حياة البدو الرحل في انطلاقهم نحو آفاق لا مرئية بين سماوات الصحراء العالية ورمالها اللامحدودة أوكأنه لا يزال ذلك الفتى الممشوق الذي يتحرك بحرية مطلقة بين «حيالات» الواحات وبساتينها في حريملا وبين شعيبها ومراعي أنعامها. ولم تكن أمي إلا أشد غيا في تعلق لبها وعقلها وأجنحتها التي لا تحصى ليس بالمعرفة والعلم فقط بل بأقصى تخومهما وليس با لكتب بل وبقصاصات الكتب. ولا أروي إلا حقيقة عشتها وأنا أقول إنني تربيت على رائحة الكتب وعلى يد سيدة كانت لا تكف عن التطيب برائحة الكتب وإطلاق عبيرها النفاذ في دمائنا. ولا أنسى أُنس أمي بكل كتاب جديد تنجح في جلبه لي. فقد فعلت أمي ماتفعله الطيور في بناء الأعشاش لصغارها، فعملت على بناء مكتبة لي قشة قشة من عرق كدها ومن سهرها على ماكينة الخياطة ومن أشواقها المعرفية التي حرمت منها طفلة فحاولت بكل طاقة الحب والحرمان أن تعوضها مضاعفة بإعطائي نصيبها ونصيبي معا من ذلك الشوق المعرفي المكنون في الكُتب. فمع أن أمي ربما لم يخطر لها أن تقرأ لي كتبا وأنا في بطنها وفي طفولتي المبكرة ماقبل المدرسة، نظرا لصغر سنها وشح ضوء الكتب في بيئتها، فلم تفعل ما فعلتُ مع أطفالي بإلهامها وبما أُتيح لي من معارف عالمية من بياجيه إلى د. سبوك ود. بول فريري إلخ..، إلا إنها لم تأل جهدا في مدي بالكتب وفي مبادرة بناء مكتبة في فضائنا البيتي كتعويض عن فراغ المكتبات العامة وخاصة للبنات في الفضاء المجتمعي العام. أذكر على مشارف طفولتي الثانية أوالمرحلة الثانية من الطفولة أن أول نهر مكتبتنا المنزلية بدأ بجدول أو ينبوع صغير شقته أمي في الجدار قريبا من تناول يدي الصغيرة أنا وإخوتي فأحضرت طوبا من الآجور الأحمر ووضعت عليه ألواحا خشبية ورصت عليه مالذ وطاب من الكتب القليلة المتاحة حولنا بما فيها كتب كانت بالتأكيد أكبر من أعمارا، وأذكر منها كتاب البؤساء لفيكتور هيجو واوليفر توست لتشارلز ديكنز وكتاب آن كرنينا لتلستوي والأم لجوركي والشيخ والبحر لهمنجوي (مما أدمنتُ قراءاتها والاستزادة من لذتها الباهظة لا حقا في مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوي )،ومنها رواية دونكيشوت لميغيل دي سيرفانتيس التي صارت مقررة علينا باللغة الإنجليزية لا حقا في المدرسة المتوسطة، هذا بالإضافة لكل قصص الأنبياء التي كانت متاحة بوفرة في مداخل الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة. ولم يقف جهد أمي وطموحها عند تلك الأرفف الصغيرة بل كانت في سفرياتها وأبي وسواء كنا معهما أو بدوننا تتحزم لي بالكتب تحت ثياب الحمل الفضفاضة والعباءة لتمر بها من حواجز المطار دون رقابة أو مصادرة، كتب في مختلف العلوم ولكن كان تركيز ماما منصبا عليّ، فكان أغلب الكتب التي تسربها لي كتب أدب وشعر خاصة تلك الكتب المتنوعة التي تولع بها قلبي المراهق وقتها من شعر المهجر وشعر أحمد شوقي وعمر أبوريشة وبدوي الجبل وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومحمود حسن إسماعيل صاحب رائعة قصيدة النهر الخالد وصاحب ديوان ليالي القاهرة إبراهيم ناجي برائعته المشهورة وقتها قصيدة الأطلال، وكتاب بعنوان القصيدة الفاتنة «لاتكذبي» لكامل الشناوي، وكتاب الأيام لطه حسين الذي لطالما عشتُ معه كظلي فكان لا يستقر على رف مكتبة البيت لكثرة ما أحمله في حقيبة المدرسة إما لإعادة قراءاته مرات ومرات أو لأعيره لصديقاتي المقربات لشدة ماحدثتهن عنه. كنا كلما كبرت سنة كبرت مكتبة البيت معي وخرجت من حيز رفوف الخشب والطوب إلى حيز أرحب من العشب الذي عرش على أكثر من جدار في حجرات البيت. وقد ظلت أمي على وفاء منقطع النظير في تعهد تلك المكتبة التي كانت تسميها (مكتبة الفوز) وأسميها جنة أمي/ مكتبة ماما نور، فحملتها حتى بعد ارتحالي عن بيتنا بجدة للدراسة الجامعية بالخارج الذي ظننته مؤقتا فامتد إلى يومي هذا، من بيتنا بالرويس إلى فيلا بيتنا الأزرق على طريق المدينة الطالع ومن بيتنا على شارع التوبة بحي الشرفية إلى بيتنا بحي الرحاب ثم بيتنا بحي البساتين، وبعد أن كانت مكتبة ماما نور تؤثث بخضرتها جدارين أو ثلاثة أفردت أمي لمكتبة الفوز حجرتين كاملتين وأدخلت معها جزءا من شرفة علوية، وكانت تقول لا أحب قفل الشرفات، ولكن المكتبات هي شرفات البيوت أيضا،( مع أنه لم يكن في محيطنا بيوت بها مكتبات، ولم أر ذلك إلا نادرا في زياة وأنا في المتوسط لبيت المرحوم الشاعر فؤاد شاكر وابنتيه أبلة سلوى ودعد، وبيت ماما أسما زعزوع الشهيرة منذ وقت مبكر منتصف الستينيات الميلادية بتقديم برامج الأطفال بالإذاعة السعودية، وكان زوجها أستاذ الأدب والصحافة لعدد من الأجيال على مدى مايزيد على نصف قرن أ. عزيز ضياء رحمهم الله جميعا).
تركت المكتبة ببيتنا /جنة أمي/ متجهة للدراسة الجامعية ولم تكن بذلك الحجم الممتد الذي اقتضى لاحقا من الشريفة نور توسيع مساحتها لغرفتين وشرفة ولكني تركتها دانية قطوفها بالكثير من الكتب الأثيرة على ذاكرتي والتي أثرت في تكويني الفكري والوجداني إلى اليوم ومن تلك الكتب العزيزة كتب الإهداءات التي كان يرسلها لي أساتذة وزملاء على عنوان مكتب أبي العقاري /دخنة/ الواقع على شارع المطار القديم بحي البغدادية بجدة أوعلى عنواني على جريدة عكاظ ككاتبة عمود يومي بها بعنوان «قطرات»، وكمحررة لصفحة الثلاثاء الأدبية الاجتماعية. ومن تلك الكتب التي لا زلتُ أذكرها ولازال بعض منها في مكتبة بيتنا بحي البساتين، كتب للأستاذ حمزة شحاتة وأ. محمد حسن عواد، للشيخ حسن آل الشيخ/ خواطر جريئة، كتب أ. محمد حسين زيدان، ديوان أجنحة بلاريش للشاعر حسين سرحان، دواوين المجترح باكرا لقصيدة التفعيلة الشاعر حسن عبدالله القرشي، ديوان الأوزان الباكية للشاعرة ثريا قابل، وقصص قصيرة للأديبة عابدية خياط. هذا بالإضافة لكتابين أوثلاثة لصاحب الكتابات الجميلة المهجوسة وقتها بمحاولات جادة لتجديد السرد النثري والقصصي وتطعيمه بنفس «رومانسي سعودي» خاص يوازي مد الرومانسية العربية في مصر وبلاد الشام أ.عبدالله عبدالرحمن جفري. ولا شك عندي أنه كان هناك في مكتبة بيتنا بجدة عدد أكبر من الإهداءات التي وصلتني خلال مرحلة دراستي المتوسطة والثانوية ومشواري الأول ككاتبة ماقبل منتصف السبعينيات، مما كان بودي الإشارة ولو لعناوينها كمعالم لملامح تبلور الإنتاج الأدبي السعودي الحديث، لوكان تحت يدي ولو لم أكن أكتب تجربتي مع المكتبات هذه من مقعدي بمكتبة الأمم المتحدة خلفي النهر الشرقي المتجمد بردا في شتاء نيويورك القاسي، وأمامي ليس إلا خيول الذاكرة تركض مختالة بالكاد تصافحها عيوني قبل أن يطبق علي المغيب الأخير.
بقي في نهاية الحديث الذي لاينتهي عن مكتبة ماما نور ببيتنا/ مكتبة الفوزكما ظلت تسميها لآخرنفس في صدرها العامر بالعنفوان المعرفي -جللها الله برحمته- أن أذكر عدة نقاط تختيمية وليست ختامية.ومن ذلك أن أمي لم تقبل أن تكون وحدها المعين الممول للمكتبة بالكتب ولم تقفلها على شراكتي وحدي لها مع بعض مساهمة أبي -رحمه الله وأحسن إليه-، بل دربتنا نحن جميع بناتها و أبناءها على حب الكتب وعلى حرمة المكتبات (للراغب فيها وللراغب عنها) وتركت مجالا واسعا حرا لتتفتح جداول وينابيع جديدة تدخل الماء إلى مكتبة البيت على تنوعه بحسب ميول ودراسة محبي القراءة ومقتني الكتب من إخواني وأخواتي العشرة سواء لهم أو في تهادينا للكتب مع بعضنا بعضا. ولذا لم تعد مكتبة ماما نور مكتبة لكتب الأدب والفلسفة والشعر (من المعلقات وشعر الشريف الرضي وأبو تمام والمتنبي والحمداني والبحتري وأبي نواس وليلى الأخيلية والشعر الأندلسي، ابن زيدون وولادة لمجموعات دار العودة الشعرية 1970 -1980 ) ولكن أدخلت عليها شقيقتي د. أرليت عبر مسيرتها الدراسية وتخصصها كتبا ودوريات في علم الاجتماع وعلم النفس والعلوم التربوية، وأدخلت عليها أخواتي نوال وحسناء كتبا ومجلات في علوم التمريض و الجمال والكيمياء وأدخل عليها بعض إخواني الشباب كتبا في الحاسب وكتبا في الإدارة والتمويل وتطوير الذات والقانون. ولا بد أن مكتبة أمي تملك أكبر أرشيف لمجلة طبيبك التي لم تتوقف أختي د. نها عن ضمها لمكتبة البيت منذ اختارت مستقبلها على طريق الطب وهي في أول متوسط. هذا بجانب مجلدات من مجلة ريدرز ديجست، ومجلة الجيل لمازن بندك- رحمه الله-.
أما أمي فقد أغنت مكتبتها تدريجيا بكتب التراث وأمهات كتب الفقه الإسلامي والحديث وتفسير القرآن الكريم وبعض سير العلماء. ولا بد أن مكتبة أمي التي توزعت اليوم في عدد من بيوتنا مع الأسف بعد رحيلها المودع،كان بها أكبر أرشيف لعقود من السبعينيات إلى الألفية الثالثة لمجلة العربي (الصادرة من الكويت)، ولمجلة الغرفة التجارية بحكم دخول أمي في سجل رسمي باسمها مجال العمل التجاري المبكر والذي لم يكن إلا صفحة واحدة من صفحات كتاب حياتها الذي سيظل خالدا في مكتبة قلبي وذاكرتي ومكتبة الوجود.