عبدالوهاب الفايز
هكذا تم الاتفاق بين الموظفين.. فبعد المشوار اليومي المروري المزعج.. لا أحد يتكلم مع المدير (أبي محمد) حتى يهدأ ويخف توتره.
أمّا (أبو منصور) فقد حولته عذابات وتحديات الطريق إلى فاكهة المكتب، فطبيعته (الحارة) تأخذه إلى سرد أحداث الطريق بطريقة تجلب المتعة للزملاء الذين يرتبون بينهم - بخبث - التدخلات المتعاطفة والاستفزازية لكي يساعدوه على رواية الأحداث، وطبعاً يضمرون هدفاً نبيلاً: لكي (يُنفس) عن متاعب الطريق، فبعدها يهدأ ويرتاح، وهم يخرجون بجرعة مرح تخفف بيئة العمل المملة. وربما مع ثورة ChatGPT سوف تتاح فرصة لزملاء أبي منصور أن يعرفوا مساره في الطريق، وكل منازلاته وثورات غضبه وجميع المخالفات المرورية التي يرتكبها، بالصوت والصورة.
وما أكثر المشاهد الدرامية التي سوف تروى في المكاتب والمجالس والمقاهي عن قصص الزحمة.
***
لماذا نحتاج السلام والأمان في الطريق؟، هل هذه مجرد أحاديث في الأماني.. ونوعٌ من الترف الفكري والصحفي، أم هي حاجة (إنسانية وصحية) تسندها الأدلة والمعطيات العلمية؟
ثمة مؤشرات مزعجة لمسها العاملون في القطاع الصحي في المملكة مؤخراً وهي: ارتفاع ملحوظ في عدد (وفيات الفجأة) لعدد متصاعد في الأعمار دون الـ 30 الثلاثين عاماً. وهناك جهود لبدء برنامج بحثي علمي لم يتردد ولي الأمر بدعمه لمعرفة أسباب الوفيات. ربما، من بين أسباب أخرى، قد تكون الزحمة المرورية وفوضى القيادة مُنتجة للمشاعر وللأفكار السلبية، وتولد الغبن نتيجة عدم الإحساس بالأمان وغياب العدالة في الطريق، وهذه بالتالي تنعكس على صحة الأبدان والأنفس.
البحث في هذا الموضوع يضعك أمام وفرة في الدراسات والأبحاث متقاربة النتائج بالذات في أوروبا وأمريكا. هناك العديد من الدراسات التي استهدفت معرفة تأثير زحمة المرور على صحة قائدي المركبات، وعلى صحة الأشخاص الذي يعيشون قريباً من الطرق الرئيسة المزدحمة التي تتلقى عوادم المركبات وتتأثر بالضوضاء. وهناك دراسات وجدت من بيانات المصابين بالأزمات والنوبات القلبية فاصلاً زمنياً قصيراً بين الإصابة وبين البقاء طويلاً في الزحمة، وهناك دراسة وجدت أن خطر الإصابة بنوبة قلبية يزداد مع ارتفاع حركة المرور على الطرق. وهناك دراسات ربطت التعرض لضوضاء حركة المرور على الطرق بعوامل الخطر القلبية الوعائية، بما في ذلك ارتفاع ضغط الدم الشرياني، وأخرى وجدت أن الضوضاء المرتبطة بالمرور تزيد من (مستوى هرمونات التوتر والإجهاد التأكسدي للأوعية الدموية وضغط الدم، مما قد يؤدي لاحقًا إلى اختلال وظيفي في البطانة وعدم التوازن غير الإرادي والتشوهات الاستقلابية)، وهذه تؤدي في النهاية إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. أيضاً وجدت بعض الدراسات التجريبية أن التعرض طويل المدى للضوضاء المرورية قد يساهم في تطور تصلب الشرايين ويزيد من خطر الإصابة بأحداث القلب والأوعية الدموية الحادة.
وزحمة المدن تستقطب اهتمام منظمة الصحة العالمية ومراكز الأبحاث المتخصصة في الجامعات العالمية الكبرى، فهناك تخوف من مخاطر الزحمه المرورية نتيجة تنامي حركة الهجرة إلى المدن، فمنذ عام 2007 أصبح غالبية سكان العالم يعيش في مناطق حضرية بالذات في المدن المليونية التي يتجاوز عدد سكانها 10 ملايين نسمة.
هذه الاحتمالات للإصابة بالأزمات القلبية نرى مؤشراتها في شوارعنا الآن، فقد اعتدنا على رؤية حالة التوتر ظاهرة في الوجوه أو في سلوك القيادة، وربما هو سبب حالة (العنف في القيادة)، فطبيعي رؤية تخطي الإشارات الحمراء، وتخطي الزحمة عبر السير على الأرصفة، ونلمسها من السرعة الجنونية في الشوارع المكتظة.. وهناك الكثير من سلوكيات تعكس اضطراباً في الشخصية وعدم استواء نفسي وصحي، وكل هذه تجعل شوارعنا مسرحاً مفتوحاً كوميدياً درامياً في الهواء الطلق.
كيف تنشأ مؤشرات المخاطر الصحية غير المباشرة؟
القاعدة الأساسية في الطبيعة البشرية أن الناس لا يطيقون الأمور غير المتوقعة، أو التي تخرج عن السيطرة. ومن هنا تتطور حالة الضغوط في الطريق نتيجة تولد حالة المزاج المهُاجم أو mood attack، فحالات المخالفات والتجاوزات المخيفة تجعل قائدي المركبات في هذا المزاج المقاتل بشكل مستمر، وهذا يرفع التوتر في الطريق. والمعرف علمياً أن التوتر يبعث الإشارات التي تحفز الغدد الكظرية لإفراز الهرمونات، بما في ذلك الأدرينالين والكورتيزول، وهذه ترفع معدل ضربات القلب والطاقة، وتجعل المشاعر في حالة الهجوم والدفاع. وهذا تقريباً ما تسمعه من الأشخاص الذين يصفون حالهم في الطريق (ياخي رفع ضغطي، وترني.. لكن أدبته!) بعد تعرضهم لمضايقات من يطاردهم من الخلف مستخدماً كل المنبهات المطالبة بفتح الطريق لحضرته. هذه تجعل أبداننا متحفزة ومستعدة لظروف ومفاجآت الطريق الخطرة. واستمرار تعرض أجسامنا لإفرازات الكورتيزون وهرمونات التوتر الأخرى طبيعي أن ينتج مشكلات عدة في أجسامنا ويرفع خطر الإصابة بالعديد من المشكلات الصحية، من أمراض القلب والسمنة إلى القلق والاكتئاب. والأضرار لا تقف عند الانفعالات العصبية والنفسية، فساعات الانتظار الطويلة تؤثرعلى البدن نتيجة الضغط على العظام والظهر والقدم والرقبة، ومرضى السكري أكثر من يعاني (30 % من السكان مصابون بالسكري).
بالإضافة إلى التكلفة الكبرى لحوادث وإصابات الحوادث المباشرة، هذه المخاطر الصحية النفسية والجسدية المزمنة هي تكلفة أخرى غير مباشرة للزحمة المرورية التي يتعرض لها الناس في المدن المعاصرة، وتكلفتها الاجتماعية والاقتصادية عالية جداً لكونها غير منظورة، ولا توجد مراكز أبحاث ودراسات متخصصة تتبع مثل هذه الأمور. وهذه لن يتصدى لها سوى جهاز مركزي ينظر للسلامة المرورية من جميع جوانبها، العلمية والسلوكية، والتربوية. هذه لا يتصدى لها جهاز المرور المشغول بالهم اليومي، ولن تهتم بها اللجان المتعددة. وأنتم أعرف بعمل اللجان وماذا تُنتج. وهذا الذي نتطلع اليه، فالاتجاه إلى تحقيق جود الحياة تخدمة الكيانات ذات الغايات والأهداف الإنسانية الكبرى مثل السلامه المرورية. ولا نعرف هل مثل هذه الأمور يدركها القائمون على برنامج جودة الحياة، هل هي في صميم أهدافهم، وربما لهم أهداف لا نعرفها.