فإن الجمال في الأدب والفنون غاية في ذاتها يسعى الفنان جاهداً في تحقيقها، ويسعى الناقد للبحث عنها في هذه الفنون الجميلة، ليس من رسالتها الأصلية خدمة الحقيقة أو البحث عنها. فالشّاعر والرّسام قد يعجب كل منهما بفاكهة من الفواكه، فيصفها الأوَّل وصفاً ممتعاً في شعره، ويرسمها الآخر رسماً معجباً بأصباغه وألوانه، من غير أن يشتهي أحدهما تناولها، أو زراعتها، أو التجارة فيها بقصد الربح أو المنفعة، فإذا تدخلت فكرة الربح أو المنفعة أصبح كل من الشّاعر والرّسام زارعاً أو تاجراً، وبُعد بذلك على أن يكون فناناً ينشد الجمال المحض لذاته والجمال هو كل شيء في الأعمال الفنيَّة وهو يتمثل في الأشكال والصُّور التي تصدر عن الأذواق الفنيَّة من غير قصد إلى المنفعة.
نعم، ذهب بعض النّقاد إلى أن الجمال هو الحق، وأن الحق هو الجمال، كما أن الأشياء الجميلة لا يمكن أن توصف كلّها بالصدق، وإلا فكيف نستطيع القول إن مناظر الطبيعة صادقة، بأيِّ معنى عاديِّ تحمله كلمة «الصدق»؟
كيف تصدق الزهرة، أو الغروب، أو الشّلال؟ ومع ذلك نحن نصفها بالجمال من غير شك, وسئل الأصمعي: من أشعر النَّاس؟ فقال: من يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً، أو إلى الكبير فيجعله بلفظه خسيساً.
والحقَّ أن المعنى الخسيس خسيس في ذاته، والمعنى الجليل جليل في ذاته... وإنما تبدو مقدرة الشّاعر في تصحيح ما يمتنع، ومنع ما يصحَّ.
والشّاعر ليس ملزماً بالصدق، والناقد ليس ملزماً بالبحث عن الحق، وإلا كان علينا أن نطرح جُلَّ الشَّعر العربيِّ، وأكثر الشّعر الذي ورثته الإنسانيَّة كلها. ويجب على كل أديب أن يشكل مادته ويبرزها في صورة فنيَّة معجبة.
فإذا أراد الأديب أن يجيد تصوير تجربته الشعرية، وأن يعبر عنها تعبيراً جميلاً، وجعل المتلقي يبحث عن الإعجاب بفنه ومشاركته في العاطفة أو في نوع الإنفعال الذي وجده، فقد حقق أهم ما يراد تحقيقه من العمل الأدبيِّ، لأن ذلك غرض في ذاته، وأمَّا عدا ذلك من معالجة للحقائق الكونية، أو النظريات العقلية فليس ذلك من غاية الفن الأدبي.
فالأديب لا يتجاهل الحقائق، أو يتنكر للفضائل أو للأعراف والتقاليد والعادات، ولكن المقصود منه تحقيق غايته الأصليَّة أوَّلاً، وهي إتقان الصُّورة، والإبداع في العبارة عن مشاعره فإذا تحقق له ذلك من غايته النبيلة، واتفق مع الشّاعر، وفي معانيه اللطيفة، أو حكمته الغريبة، أو أدبه الحسن، فذلك زائد في بهاء الكلام. كما يقول الآمدي في الموازنة - وإن لم يقف فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه.
ويضيف الآمدي في قوله: فإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته قاصرة عنها، ولسانه غير مدرك لما يعتمد دقيق المعاني من فلسفة يونانية، أو حكمة هندية، أو أدب فارسي، فأكثر ما يرد منها بألفاظ متعسِّفة، ونسج مضطرب، فإن اتفق شيء من الوصف فقد قلنا لك: قد جئت بحكمة وفلسفة، ومعانٍ لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيماً، أو سميناك فيلسوفاً، ولكن لا نسميك شاعراً، ولا ندعوك بليغاً، لأن طريقتك ليست على طريقة العرب، ولا على مذاهبهم، فإن سميناك بذلك لم نلحقك بدرجة البلغاء ولا المحسنين الفصحاء.
ثمَّ ينتهي إلى القول بأن الشاعر (لا يطالب بأن يكون قوله صادقاً، ولا أن يوقعه الانتفاع به، لأنه قد يقصد إلى أن يوقعه موقع الضرر).
وعلى هذه الاعتبارات قَبل النقاد من الشعراء الإغراق في المعاني، والابتعاد قدر الإمكان عن التخييل، حتى قال قائلهم: (أعذب الشعر أكذبه) لأنهم يحصرون وظيفة الأدب في فنيَّة التعبير، ولا يرون خصوصية في التجارب الإنسانية ولا في ألوان المعارف التي تستقي منها المعاني والمضمونات، بمعنى أنها ليست وقفاً على طبقه الأدباء هم حملة لواء المعرفة، أو أنهم هم الذين تناط بهم دعوات الإصلاح السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي... فهناك أصحاب المبادئ والمعتقدات أحقَّ منهم بهذه الرِّسالة... فقد خصَّصت الطبيعة لكل واحد من أرباب الخبرات والمواهب مجالاً يجيد فيه... فمجال الأدب يختلف عن مجال الموسيقى وعن مجال الرسم والتصوير ومجال النحت ومجال التمثيل... وكل مجال من هذه المجالات لا علاقة له بغيره... فإن الاختلاف واضحٌ بين مجالات الفنون الإنسانية، فهي أكثر وضوحاً بين مجالات هذه الفنون وغيرها من مجالات العلوم كالسِّياسة والاقتصاد والاجتماع وسائر ضروب النشاط الفكريِّ التي تؤثر في حياة الأفراد والجماعات. إذا كان فن الأدب مادة وصورة، فإن هذه المادة موجودة في الطبيعة، وفي المظاهر الكونية، وفي حياة البشر، وفي عقولهم وعواطفهم أيضاً.
ولكن الصورة من صنع الأديب لا شك في ذلك، وهي محسوبة له أو عليه، وهو محاسب على ما قد يكون في التصوير من خلل وفساد، حيث تتفاوت به منازل الأدباء بمقدار ما يستطيع كل واحد منهم أن يبدع في ذلك التصوير، مهما تكن المادَّة التي يصورها في أعماله الأدبية، لأن الحياة، وليست من صنع يديه كما أسلفنا.
ومن خلاصة القول في هذا الاتجاه الفني أنه لا يتنكر للغايات الاجتماعيَّة، ولا للمبادئ الأخلاقية - حتى لو كان الحس في الذوات أو في المعاني أو في السلوك فالأمر لا يحتاج إلى إثبات، وكذلك الحسن والقبح.
فإن عملية النقد إنما هي عملية فكرية. ومن اليسير في أعمال الفكر إحلال فكرة موضع فكرة أخرى بوسائل الإقناع العقلي الذي يؤدي إلى التسليم بحصة الفكرة الجديدة أو الدعوة الجديدة.