د.محمد بن عبدالرحمن البشر
تمتاز اللغة العربية عن غيرها من اللغات بقدرتها التعبيرية واشتقاقاتها التي لا نظير لها في أي لغة أخرى، ولا ريب في ذلك فهي لغة القرآن، ويمكن للغة العربية التعبير عن درجات معينة من المحسوسات المادية، أو المشاعر الإنسانية، باستخدام مفردات وحسب، وليس وصفاً للحال من خلال التعابير، لاسيما تلك الموجودة في البيئة.العربية، والعادات والسلوك للإنسان العربي.
ففي المشاعر مثلاً نجد مفردات تعبر عن درجات متعددة للحب، والحب هو المحبة التي لا يصاحبها غاية يراد بلوغها بين المحبين، بينما العشق يكتنفه شيء من الرغبة في الوصول إلى المبتغى، والشغف هو الحب الشديد مع طلب العلاقة، لهذا فنجد في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة يوسف: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}، ولهذا فقد راودته عن نفسها وهمَّت به، فهي في تلك اللحظة قد دفعها شعورها إلى التعلق به، فعبَّرت اللغة العربية عن ذلك الشعور بكلمة شغف. والود هو الحب الذي يصاحبه رأفة ورحمه، وقد يكون بين الأفراد وليس بين ذكر وأنثى لغاية معينة، والهيام هو الذي يصل بصاحبه إلى إطالة التفكير، وقد يصل إلى الجنون، مثل ما وصل إليه قيس بن الملوح. والسحاب من بيئة العربي الذي يترقبه ويسعد به، فهو سر الحياة لابن الصحراء، أو الواحة، أو المدينة بعد تشييد المدن، بما يحمله من ماء ينشره على الأودية والفيافي والجبال، يروي به المرء ظمأه، ويسقي زرعه، ليطعم نفسه، ويربي إبله وغنمه، وبه تكون الحياة، ولهذا فقد أبدعت اللغة العربية في احتوائها على مفردات تصف بدقة متناهية، أنواع السحب ودرجاتها تبعاً لمنشأ السحابة ولونها وسرعتها ومقدار تراكم السحب، وهدير الرعد، وإضاءة البرق، وغيرها. وله أسماء كثيرة منها النشء إذا نشأ وبدا وأطل، وبعض المناطق في نجد يسمونه ناشئ، وكذلك الريف، والديمة وهي تلك الحالة التي تكون فيها السماء ممتلئة بالغيوم دون رعد أو برق. والعارض هو ذلك الذي يُسمع رعده من بعيد حتى إذا ظهر ملأ السماء وأظل الأرض، وقد ذُكر في القرآن الكريم مفرده العارض، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
يقول الطبري: (والعرب تسمي السحاب الذي يُرى في بعض أقطار السماء عشياً ثم يصبح من الغد قد استوى وحبا بعضه إلى بعض عارضاً، وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ). ولاحظ أن مفردة واحدة أغنت عن ذلك الوصف الطويل، يقول الأعشى:
يا مَنْ يَرَى عارِضا قَد بِتُّ أرْقُبُهُ
كأنّمَا البَرْقُ في حَافَاتِهِ الشُّعَلُ
أما إذا كان السحاب أسود متراكمًا، فهو الجون، أو المحمومي أو الحم، وقد لقب موسى بن عبدالله بن الحسن بالجون، لأنه داكن الجلد، وقد كانت أمه تلاعبه وهو صغير، وتقول:
إنك إذ تكون جونا أفرعا
يوشك أن تسودهم وتبرعا
ومن أسمائه الرباب وهو السحاب الخفيف الذي تحت السحاب الثقيل، وإذا كان أبيضًا فهو المزن، وربما أن اسم قبيلة مزينة مشتق من البياض، وإذا كان السحاب ذا صوت شديد فهو الصيب، قال الله في محكم التنزيل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ}، وهذا يعني السحاب الممطر: قال علقمة:
كَأَنَّهُمُ صابَت عَلَيهِم سَحابَةٌ
صَواعِقُها لِطَيرِهُنَّ دَبيبُ
فَلا تَعدِلي بَيني وَبَينَ مُغَمَّرٍ
سَقَتكِ رَوايا المُزنِ حَيثُ تَصوبُ
وهذا من قصيدة جميلة لعلقمة، يقول في مطلعها:
طَحا بِكَ قَلبٌ في الحِسانِ طَروبُ
بُعَيدَ الشَبابِ عَصرَ حانَ مَشيبُ
سَقاكِ يَمانٍ ذو حَبِيٍّ وَعارِضٍ
تَروحُ بِهِ جُنحَ العَشِيِّ جَنوبُ
والحبي هو السحاب القريب من الأرض، ومن أسماء السحاب أيضاً الخُلَّب، والجهام، أما الخلب بتشديد اللام فهو السحاب الذي يصاحبه برق ولا مطر فيه، والجهام سحاب خفيف غير ممطر، ولهذا قال ابن زيدون وهو في السجن مستعطفاً ابن جهور في رسالته الجدية: (وأعيذك ونفسي أن أشيم خلياً وأستمطر جهاماً).
والمطر له أسماء كثيرة جداً، تعبر عنه كثافته وموالاته، وتكراره، وغير ذلك، ومنها، الغيث وهو الذي يروي الأرض بعد القحط وإصفرار العشب، والجون هو المطر الغزير الذي يتساقط من السحاب الأسود المتراكم، والودق إذا استمر المطر العزيز في الهطول على هيئة كتل مائية، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ}، ومن أسماء المطر الوابل، وكذلك الطل، قال تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، والوابل هو القطر الكبير والكثير، أما الطل فهو الرذاذ في بعض الأقوال، وفي قول آخر الندى، ومن أوصافه الهطل يقول الأعشى:
ما رَوْضَة ٌ مِنْ رِياضِ الحَزْنِ مُعشبةٌ
خَضرَاءُ جادَ عَلَيها مُسْبِلٌ هَطِلُ