رمضان جريدي العنزي
الكرماء ليسوا سواء، وليسوا على مسافة معينة، وليسوا على درجة واحدة من الكرم، فهناك من كرمه حقيقي وعالٍ ونابع من القلب، لا يكفّ عن البذل والعطاء، فهذه هي سجيته، وهذه هي طبيعته، وهذا هو ديدنه، يرى المال عبداً له، يسخِّره في عون الآخرين ومساعدتهم وقضاء حوائجهم، لا يبتغي من وراء ذلك سمعةً ولا إشادةً ولا تصفيقًا، يعمل ذلك ببشاشة نفس، ونقاء روح، وصفاء قلب، وهناك من يتصنع الكرم ويتمثل به، ابتغاء الرياء والسمعة والنفاق والضوء والتصوير والإشادة، يقول ابن الرومي:
ليس الكريم الذي يعطي عطيته
على الثناء وأن أغلى به الثمنا
بل الكريم الذي يعطي عطيته
لغير شيء سوى استحسانه الحسنا
فصاحب الكرم الحقيقي لا يعرف المقايضة، ولا يبتغي الثناء، ولكنه يمتلك صفة نفسية جعلته يعشق الكرم ويسعد به ويسر، عبدالله بن جعفر بن أبي طالب كان من كرماء العرب، سار في البادية ومعه صديق، فمر بأعرابية عجوز لا يعرفها، فقدمت له لبناً، فأعطاها ألف درهم، وحين انصرف قال له صديقه: أتعطي عجوزاً في البادية ألف درهم وهي لا تعرفك؟ فقال: إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي!، يقول الشاعر محسن الهزاني:
بأموالنا نشري من الحمد ما غلا
وبروحنا يوم التلاقي نبايع
وبالمن ما نتابع عطانا ولا بعد لا
على الغيظ قلنا ذابه البر ضايع
وقال الشاعر محمد عبدالله القاضي:
ومن جاد ساد ومن يشح بماله
ما درك مرام ولو صعد مصعد عال
ولا يفتخر من جاد جده وخاله
هي بالهمم لا بالرمم مثل ما قال
فالجمر يمسي كالخلاص اشتعاله
ويصبح ركاد خامد طافي باله
(حاتم الطائي) من أشهر الكرماء، خلد اسمه وذكره بفعله وكرمه الحقيقي، فهو كريم في الليل وفي الضحى، عندما كان الناس في زمانه في حاجة ماسة جداً للغذاء والماء، أيضاً الشيخ (مقحم بن تركي المهيدَ) (مصوت بالعشاء) صوت بالعشاء مرتين، تصويته الأول كان في عام 1910م. في سنة المجاعة (سنة جلغيف) والتي شهدت أربعين ليلة لم ينقطع فيها نزول الثلج، وتصويته الثاني في عام 1917م. في السنة المسماة سنة (الحقة) والتي صوت فيها الشيخ مقحم بالعشاء لمدة عام كامل، وكان عدد الحضور يقدر بالآلاف، أوردت هؤلاء فقط لضيق المساحة وإلا فهناك بالتأكيد عدد ليس بالهين من كرماء العرب الذين لم يحفظ التاريخ ذكرهم وعلمهم، لكن سيرتهم عند من يعرفهم عطرة طيبة وحسنة، أما اليوم ونحن نرفل بالنعم الكثيرة والمتنوعة والتي تأتينا من كل فج عميق، فقد ابتلينا بكرم مصطنع وغير حقيقي إدعاء وكذب، زور وبهت، تصور وتبث مناظر الموائد على الهواء مباشرة بكل أصنافها ليراها الناس سمعة ورياء، يركضون ركضاً في اتجاه البريق والشهرة وحب الظهور والبروز، ويسعون من أجل ذلك بكل الطرق والوسائل الممكنة والمتاحة، ويحرصون دائماً أن يكونوا في دائرة الضوء، ليشير الناس إليهم بالبنان، أو أن يكونوا حديث الناس في المجالس، حتى إن كان ذلك على حساب الدين والأخلاق والإنسانية، ومشاعر الفقراء والمحتاجين. إن حب الظهور والاستعراض والتي يصطنعها هؤلاء من خلال الكرم الباهت الكاذب المزور دون وجود جذر حقيقي لأعمالهم بالتأكيد تمتلكهم عقدة النقص والذاتية المفرطة، مثلهم مثل أصحاب (البشوت) الذين يستعرضون ذواتهم بالبشت والسبحة والمرافقين في الحفلات والمناسبات، وهم الذين لم يعملوا من أجل الناس المقربين والمجتمع ونهضة الوطن أعمالاً حقيقية تخلدهم في التاريخ أسماً وذكراً، أن على هؤلاء لكي يسيروا في المسار الإنساني الصحيح أن يتغلبوا على عقدهم النفسية، ونرجسيتهم المفرطة. وفي الأخير أن حب الظهور والشهرة على حساب الحقيقة والمبادئ والقيم، لا يذهبان بالعمل الصالح فقط، بل يذهبان بالعقل والدين، فليجاهد هؤلاء أنفسهم، وأن يطلبوا من الله الهداية وأن يبعدهم عن الضلالة، وآفات النفس والقلب.