صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
كان للحضارة العربية الإسلامية في الأندلس صفحات ناصعة زاهرة باهرة، أفاد منها الأندلس سهماً كبيراً ومثيراً وجديراً، كما أفاد الغرب وارتوي نهلاً وعلا دون تحفظ أو تريث أو حدود في بناء حضارته وتقديم الكثير من منجزاته وما حققه من مبتكراته في الجوانب التي أرادها، والتي يظن البعض خطأً أنه انفرد بها وكان لها رائداً ومالئاً ساحتها ابتداءً.
ومن الميادين الإنسانية التي شهدتها الأندلس المسلمة فن السفارة أو ما يطلق عليه في العصر الحديث الدبلوماسية (السفارة كلمة عربية أصيلة، وذلك على خلاف كلمة دبلوماسية فهي من الكلمات المستوردة التي لم تدخل في لغتنا إلا حديثاً، فإن العرب في الجاهلية والإسلام لم يكونوا في حاجة إليها بالنظر إلى وجود لفظة عربية الأصل تعطي مدلولها وتغني عنها، أما كلمة دبلوماسية ترجع في أصلها القديم إلى اللغة الإغريقية وكانت تعني الوثيقة أو المكاتبة التي تطوى كما يطوى الخطاب أو الصحيفة أو السجل، ويبعث بها الحكام بعضهم إلى بعض في علاقاتهم الرسمية، وتخول حاملها امتيازاً خاصاً. وقد انتقلت هذه الكلمة من اليونانية إلى اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوروبية كالإنجليزية والفرنسية ثم إلى اللغة العربية وتطور استعمالها في أكثر من معنى عبر العصور المختلفة حتى أصبح مدلولها في العصر الحديث ينصرف إلى فن إدارة العلاقات الخارجية للدولة، أو هو بمعنى آخر ممارسة الدولة لسياستها الخارجية عن طريق المفاوضات وغيرها من الوسائل السلمية دونما حاجة إلى تنفيذ سياستها في المحيط الدولي عن طريق الالتجاء إلى الحرب).
ففي عصور الازدهار الأندلسي أضحى الترسل الدبلوماسي شيئاً فشيئاً من مهام الدول العليا، يُفرد له ديوان خاص، أو وزارة خاصة - أشبه ما تكون عليه وزارات الخارجية اليوم- وأضحى من جهة أخرى، نظراً لما يتطلبه من الأدب البارع والآداب العالية الرقيقة والمقدرة البيانية الممتازة، لا يعهد به إلاَّ لأكابر الكُتاب وأقطاب البيان من الشعراء.
في القرن الرابع الهجري ازدهرت في الأندلس كافة جوانب الحياة وبلغت حضارته مبلغاً عظيماً، فماجت الدروب إلى قرطبة (في ذلك الوقت بلغ ازدهار قرطبة أقصى درجاته، حيث بلغ عدد دورها 113 ألف دار، وبلغ عدد سكانها مليون ومائه وثلاثين ألفاً، وعدد الحمامات بها 300 حمام، وألف مسجد جامع) بالبعثات الدبلوماسية والسفراء والوفود الرائدة الراغبة الراجية من البلدان خاصة الأوروبية كل يطلب ودها ويروم صداقتها، وهكذا توالت السفارات إليها برئاسة سفراء أو أمراء رؤساء.ففي عام 345هـ - 956م أرسل الإمبراطور الألماني أوتو الأول الكبير OTTO I THE GREAT إلى حاكم العصر الخليفة الأندلسي عبدالرحمن الثالث الناصر لدين الله (كانت مدة حكمه فوق خمسين عاماً، كل النصف الأول من القرن الرابع الهجري وجدت في مذكراته أنه استرح خلاله 14 يوماً لا غير). سفارة برئاسة الراهب يوحنا الغرزيني JOHN OF GORZE، وصلت السفارة قرطبة العلم والمجد والحضارة وقد بدأت ترتيبات لقاء السفير الراهب يوحنا لمقابلة الخليفة في مدينة الزهراء الخليفية الواقعة خارج قرطبة غرباً، وفي القصر الخليفي في قاعة مجلس السفراء المسمى: المجلس المؤنس (بهو كبير فخم يتكون من ثلاثة أقواس، ينتهي إلى قاعة فسيحة مقسمة طولياً إلى ثلاثة أبهاء، البهو الأوسط فينتهي في الصدر بمجلس الناصر، وهناك يجلس الخليفة على عرشه تحيط به مقاعد أفراد الأسرة المالكة بحسب مراتبهم، وعلى الجانبين مقاعد للوزراء وكبار رجال الدولة والضيوف، مرتبة ترتيباً محكماً، بحيث يكون لكل رجل من رجال الدولة مقعده الذي لا يتغير، حتى إذا نظر الناصر وتبين خلو المقاعد عرف من المتغيب، أما البهوان الداخليان فيستعملان لموظفي القصر وكتاب الخليفة، ومن الواضح أن عبدالرحمن الناصر أراد أن يكون البهو على هذه الصورة من البناء لكي يستطيع في مجلسه فيه أن يرى السفراء والملوك وهم مقبلون من بعيد ثم صاعدون إلى القصر) أقيمت الاحتفالات بحضور رجال الدولة والجند والمستقبلين من الناس في حفل بالغ الحفاوة والاحتفاء. ودخل السفير الراهب المجلس، وكان الخليفة جالساً متربعاً على سريره، وقبل السفير يد الخليفة، لكن السفير كان متوتراً إلاَّ انه تعجب من سماحة الخليفة وحديثه عن الإمبراطور، وكان استقبالاً رائعاً حافلاً. جعل السفير يذهب توتره، وتحادثا في الأمور اللازمة وانتهت المقابلة على أن تتكرر. وفي اللقاء الثاني طلب السفير من الخلافة البقء في قرطبة ليتعلم اللغة العربية لينقل منها إلى لغته العلوم التي طالعها في مجالس العلم في قرطبة. بقي السفير الراهب في قرطبة ثلاث سنوات تعلم فيها العربية وحمل معه في عودته منها بعض المخطوطات.
** **
- عضو اتحاد كتاب مصر