أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: هذه الكلمات الثلاث يسمونها (قوى المعرفة)؛ ذلك أن زمام الإنسان؛ وهو العبد الضعيف في شد وجذب بين هذه القوى؛ وإذا رأيت صوفياً مرسلاً لحيته، مسبلاً شواربه، ينثر الكحل في محاجره كيفما اتفق حتى ينثال على وجنتيه: فاعلم أنه يدعي حالة الوعي.. نعم هم يسمون غيبوبةً وذهولاً وفناءً؛ ولكنها على الحقيقة حسب زعمهم: وعي بما وراء الحجب.. ومن خبل بهذه الحالة، أو بادعائها: فلا تطمع منه بإصغاءة فكرية، أو عاطفية؛ لأن المقود في يد دعوى حالة الوعي؛ فإن قلت: لهؤلاء المجاذيب: (لا تحرمونا من بركاتكم ولو بالتفسير): أشفقوا من الحرمان أو العقاب؛ وقالوا بلسان شاعرهم صريع الجنون، وقتيل العدالة (أبو الفتوح يحيى بن حبش السهروردي):
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباح
وإذا هم كتموا تحدث عنهم
عند الوشاة المدمع السفاح
ثم يعتذر عن بعض هفوات البوح:
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى
كتمانهم فنما الغرام وباحوا
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها
لما دروا أن السماح رباح
قال أبوعبدالرحمن: وإذا رأيت ساهياً لاهياً تخفق وثبات خطوه مع خفقات قلبه: فذاك أسير العواطف لا يعترف بوعي، ولا يصغي لفكر؛ وقاموس لغة هؤلاء أعظمها من (ليت) وأخواتها؛ فإن تلمظوا بالذكريات فلغتهم (كان).. وبعكس هؤلاء صنف لا يعترفون بحالات الوعي، ويجحدون كل مطلب للعواطف؛ وهؤلاء هم عباد الفكر من الفلاسفة.. وما رأيت في حياتي قط أشد جفافاً من الفلاسفة الذين وأدوا في أنفسهم كل بشاشة للأريحية والمرح؛ فلعدم إيمانهم بالوعي: تراهم مفرطين في حق التفكير الذي يدعون سدانته؛ لأن معارفهم مجرد ترديد لوقائع حسية، وليست إيجابيات فكرية ولدتها الوقائع؛ ولحيفهم على عواطفهم: تراهم يروضون سلوكهم على مثاليات فكرية جافة لا بهجة وراءها، وفتش كيفما شئت فلن تجد فيلسوفاً حقيقياً يتمتع بكبير ظرف.
قال أبوعبد الرحمن: الخلق السوي، والسلوك السوي، والمعرفة السوية: تجدها عند قلائل أحكموا الاتزان بين تلك القوى الثلاث (التفكير والوعي والعاطفة)؛ فلم يتيحو لطرف منها أن يشكو الضيم والحيف من تسلط الطرف الآخر؛ فإن عبثوا بعواطفهم: وجدته عبثاً يبتسم له الفكر؛ وإن أخذوا بعزائم الفكر: وجدت ذلك في جذل من العاطفة.. ولا يعدم هؤلاء لحظات من الوعي والإشراقة تتأتى لهم من إيمانهم إن كانوا أتقياء، ويتأتى لهم إنذار من قوى الغيب إن كانوا أشقياء؛ فيغمرهم معارف لا بأس أن يسموها مشاعر؛ لأنهم لم يكتسبوها بتفكير.. وبعضهم يسمي ما تأتى في تلك اللحظات بالحاسة السادسة.
قال أبو عبدالرحمن: إن معيار السوية في معرفة هؤلاء يتأتى من حسن التنظيم بين تلك القوى الثلاث؛ وذلك الحسن ناتج عن إدراك أن ما يسمى معرفة حقيقةً هو قناعة القلب الذي يسميه أرسطو (عاصمة الجسد)؛ وأصدق منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علق صلاح الجسد بصلاح القلب؛ وأما ملكات العقل، ونوافذ الحس: فإنما هو وسائل لتحصيل المعرفة، وتنظيمها، واستذكارها وقياسها.. والذي يحدد سلوك الإنسان ويسيره صحة المعرفة وصدقها.. والدور الجوهري الأول الذي لا يملكه غير القلب: أن القلب محل إضمار النية واصطفائها؛ ولم يجعل الله أي سلطان لأي أحد على قلب الفرد من حيث ينوي ما يشاء؛ ولهذا جعل الله أحكام فعل الجوارح تابعة لنوايا (والنوايا صحيحة؛ لأنها جمع نوية كطوية القلوب)؛ ولهذا أيضاً فإن المعرفة ما ساءت بين المختلفين إلا لفساد في نية القلب؛ فحصل العناد والمغالطة والشغب والتضليل والانقسام؛ ولو صدقت النوايا (هي صحيحة كما مر، وأدل على الكثرة): لكان الاختلاف مرحوماً محصوراً؛ إذن لن تقر المعرفة الصحيحة في قلب غير صادق.. والدور الجوهري الثاني للقلب أنه مستقر المعرفة؛ فما كان معرفة بالنسبة للفرد (سواء أكان معرفة صحيحة في الواقع، أم معرفةً وهمية باطلة): لا يكون معرفة بالنسبة للفرد حتى يكون عاطفة في القلب (أي عقيدة)، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين