د. عائشة بنت دالش العنزي
شيءٌ من صمت يستجدي حديثاً كُتب على هوامش مخطوطات قديمة يحتضنها صندوق زجاجي.. يحتفي بحجم الحروف ويزرع حولها صهيلاً خلّفته الخيول عندما يممت المدى البعيد همتها.. تاركةً المكان لصوت (النجر) تعزفه يد شيخ أدمن قرعه كلّ صباح وخصّ به أولاده في المساء.. يبتسم عندما تغمض الصغيرات أعينهن ويغضب لو صدر ذلك من الأولاد.. وفي كلا الحالين يزيد في القرع منطلقاً من العمق مرورًا بجوانبه يسير في هذا وفق أعراف سنها الأسلاف واتفقوا عليها.
طقوس أجهل سببها وبدايتها، لكن دهشتي بها كانت ولا زالت من أغلى الذكريات التي احتفظتُ بها وصنتُها في أماكن قصية من فؤادي تحول دونها والنسيان أسوار الحنين.. وجبال تمتد سمرتها دفئاً كلما استرجعت ملامح طفلة كانت تهوى صعودها وتستلذّ بصدى صوتها العائد إليها من بين تلك الصخور.. وتتشبث بصحبة كل من تراه يهمّ بالصعود إلى أعالي تلك الجبال لا يتخلص منها إلا بعد عناء.. والبعض يذهب خفيةً عنها، ويسرد لها من الأساطير المخيفة ما يضمن اكتفاءها بالنظر واللعب بعيدًا عن أي خطر، بعد أن يعدها بالحميض، فهو يحمل رائحة القمم المحفوفة بالأخطار، فتأكل على عجل بعضه، وتترك الباقي لمن يعشق رائحته وشكل أوراقه ويتمتع بشربه مع الشاي، وتظلّ تذكّرهم به بقية اليوم وكأنها هي من قطفته ونزلت به!
تبقى مشدودة إلى كل ما حولها؛ لأن أيام البقاء في هذا المحيط الجميل الذي يتسّور رحابة المدى- محدودةٌ، تعود بعدها إلى الأبواب المغلقة والنوافذ المواربة والشرفات المطلة على شوارع ضيقة... وأناس لا تعرف أكثرهم، وإلى انتظار الزائرين نهاية كل أسبوع والطامة عندما لا يحضرون.. وتعود وفي رأسها سؤال غريب: لماذا صار بيتنا صغيرًا؟.. لهذا كانت تحاول استثمار الثواني قبل الدقائق لتعبّ من هذا العالم المفتوح الذي كان يخلو من القيود والأنظمة - عندها وعند أترابها- يلاحقون الطيور في السماء مفتونين بأجنحتها، وتتبّع أعينهم رحلة مجموعات النمل من جحوره وإليها تذهلهم طرائق سيرها وتواصل أفرادها؛ ولأن الماء نفيسٌ وقراح لا يأتي على بالها – أو على بال غيرها - اللعب به أو الاقتراب منه، إلا أن يتتبعوا خطوات غاسل (الدلال)- في غفلة منه- فيجمعوا التراب ويصنعوا بيوتهم الصغيرة التي تتهاوى عند أول شجارٍ تاركة رائحة الهيل ولون الزعفران عالقة في ثيابهم وأيديهم ورؤوسهم، تجود بمساحات من الحكي لقادم الأيام.. تجود بكثير من التفاصيل المبهمة التي تباغتهم – بعد ذلك- دون أن تتقيد بتفاصيل الزمان وحدود المكان وما عليه الحال.. تباغتهم مثقلة.. وتمضي خفيفة بعد أن أثقلتهم بغصص اعتادوا مضغها بطيف ابتسامات تصول وتجول بحرقة ثم تنطفئ وهي عالقة بأطراف أهدابهم.. يرونها دون جلاسهم..!
ويبقى مشهد الغروب في جبال (موقق) مختلفاً كثيرًا - في ذلك الحين - فهو مصحوب بأشواق الأغنام لصغارها وحاجة الصغار لأمهاتها.. إن استعادة هذا المشهد بكل عوالمه يغذي السمع والبصر، ويسكب الضوء في مصابيح علاها الصدأ واستبدّ بها الظلام طويلاً.. فأذبل فتائلها وأسقم زجاجها، إن تحيين ذلك المشهد بما بقي من تفاصيله وبسط أحداثه بعد استلالها من أماكنها القارة في الذاكرة والروح، ليس بالعمل الهين؛ فالأماكن بعيدة.. والمدى نحوها متسربل بالأمن والخوف معاً.. أمّا الشخوص فقد كانت أرواحاً وأنفاساً ثم صار بعضهم ماءً حارًا وحائرًا في العيون يبحث عن مصب ينسيه حشرجات أيامه..
لن أنسى أن هذا الفضاء للطفولة ولا يحتمل أوجاع الكبار.. أعود لمشهد الغروب الذي تتقاسمه ضرورات الحياة لصاحب المكان - الجد والجدة وجيرانهم-، ومتعتها للزائر، وهذا الاختلاف يصنع صداماً رقيقاً شفيفاً؛ ولهذا يبقى الأخير يرقب من بعيد - مجبرًا لا مختارًا- في فضل الاستجابة لنجر المساء المعلن اجتماع أهل الدار حول دفءٍ آخر برائحة القهوة والخبز معاً وبطعم حليب جادت به الأغنام - بفضل الله - على صغار البشر بعد أن أشبعت صغارها، لا يزال طعم الحليب الممزوج بحكايات الأجداد وغسق الغروب يثبت حضوره في كل ارتداد إلى ذاك المكان المسكون طريقه بالخوف؛ لأنه يمر بين الجبال، لكنه يفضي في نهايته إلى شعور بأنسٍ.. لا ينكره العابرون أو القاصدون. أنسٌ ترك في قلوب صغارهم وسمًا كوسم أنعامهم لا يخطئ في الدلالة عليهم حين يشير إليهم دون سواهم.. وفي هذا الغروب وداعٌ لذيذٌ يصنعه الكرى عندما يفاجئ عيون الصغار ويُسكت ضجيجهم بعد أن عقدوا المواثيق على اللقاء مع الفجر؛ لاستئناف مغامراتهم وإشباع الأرض بطهرهم وآثار أقدامهم.. ويستمر هذا ديدنهم حتى يحملهم الطريق ذاته في رحلة أخرى لا مناص منها؛ حيث يعود كلٌّ منهم إلى مدينته، مودعين (موقق) أطهر أيامهم وأنقى علاقاتهم وأصفى ما يعرفه كلٌّ واحدٍ منهم عن الآخر وعن نفسه!
** **
- أكاديمية جامعة الأميرة نورة