د.عبد العزيز سليمان العبودي
كان لمقدمة ابن خلدون الأثر الكبير لأن تضع منال رغبتها الأولى في علم الاجتماع حينما قدمت أوراقها للالتحاق بالجامعة. واتفق الشغف مع الرغبة لأن تنهي سنواتها الأربع بتميز في هذا التخصص سيما أنه يمكن تطبيق ما تعلمته من خلال الممارسات والمشاهدات اليومية. وبعد أن قدمت أوراقها لمجموعة من جهات العمل، وضعت طاولة صغيرة بالقرب من بيتها وبدأت تبيع الشاي والقهوة العربية وبعض المنتجات المنزلية للمارة ريثما تحصل على وظيفة. وكانت تدون الملاحظات اليومية وتصرفات الناس، وتصنع القصص من بعض المحادثات. ولم يفتها رصد بعض المظاهر الاجتماعية والتغيّرات، لمقارنتها مع بعض النظريات التي درستها في الجامعة. وفي أحد الأيام اشترت منها سيدة كأساً من القهوة العربية، وطلبت منها قطعة من المعمول، فصنعت منال القهوة واعتذرت عن المعمول، بأنه لا يتوفر لديها. فقالت السيدة، لدي معمول أصنعه في المنزل، فإذا وافقت فسوف أجلبه لك لتبيعيه هنا. وافقت منال. وفي الغد أحضرت السيدة خمس علب من المعمول، وقالت: يمكنك بيع العلبة بمائة ريال، وستحصلين على خمسة ريالات مقابل كل علبة. فردت منال: هذا السعر مبالغ فيه ولا يمكن لأحد أن يشتري هذه العلبة بمائة ريال من بائعة شاي منزوية في شارع داخل الحي. فردت عليها السيدة: لن تخسري شيئاً، الكثير ممن جربه يمتدحه، وفي الغد -بإذن الله - سوف آتي وآخذ المتبقي منه، وبذلك لن تخسري شيئاً. قالت منال: لا مانع من التجربة. وبالفعل لم ينته اليوم إلا والعلب قد تم بيعها. وجاءت السيدة من الغد، وأخذت المبلغ وأعطت منال نسبتها من البيع، وأعطتها كذلك خمس علب معمول أخرى. استمرت منال على هذه الطريقة لمدة أسبوعين، ولكنها لاحظت أن من يشتري المعمول هم تقريباً نفس الأشخاص، وحين تعرض المعمول لزبائن آخرين يرفضونه بسبب سعره المرتفع. هذا الأمر جعلها في حيرة، ثم تساءلت لماذا لا تزيد تلك السيدة من عدد العلب إذا كانت تُباع بالكامل؟ فتذكرت ما درسته في مقرر علم الجريمة، وسلوك المجرمين في تنفيذها، فرسمت في ذهنها العديد من السيناريوهات والتوقعات، لأهداف هذه السيدة من بيع المعمول بهذا السعر المرتفع. فنقلت هذه التساؤلات إلى خالها الملازم عماد، فسألها بعض الأسئلة، عن مواصفات المعمول، وكذلك السيدة، ولهجتها، وطريقة لبسها، ومواعيد قدومها إليها، ثم قال: لا تقلقي، استمري معها وسوف أتواصل معك فيما بعد. أتصل عماد على أحد أصدقائه بابحث الجنائي وعرض عليه المشكلة، فرد عليه زميله، أحضر لي علبة من المعمول وسوف نفحصها لنتبين إن كانت تحتوي على أي شيء مخالف. وبعد الفحص، تبيَّن خلو المعمول من أي مواد ممنوعة، فازداد الشك لدى الملازم عماد، ثم طلب من منال معلومات إضافية عن الأشخاص الذين يشترون المعمول والمواعيد المعتادة لهم ومواصفات سياراتهم. ومن الغد أوقف الملازم عماد سيارته بمكان قريب من طاولة منال، وترصد حتى جاء شخص بمواصفات وسيارة شبيهة بما ذكرت منال. فنزل الملازم وهو يرتدي ملابس مدنية مقترباً من الطاولة. وعندما أشترى الشخص المعمول، همس الملازم في أذن المشتري: معك الملازم عماد وأريد أن أتكلم معك قليلاً في سيارتي تلك، وعرض عليه بطاقة العمل. ذهب المشتري مع الملازم إلى سيارته وجلس معه. فقال الملازم: في البداية، أعتذر منك عن الإزعاج. ويتبيّن لي من هيئتك أنك شخص غير مشبوه، لكن تكرار شرائك للمعمول بسعر أعلى من قيمته بالسوق، قد أثار لدينا الشبهات، وأريد معرفة ما وراء هذا المعمول؟ فرد المشتري: أسمى محسن وأعمل بالتدريس وصاحبة المعمول هي أمي -حفظها الله - تضعه عند بائعة الشاي، ثم نشتريه أنا وإخوتي، حيث يأتي أحدنا كل يوم لشرائه. وذلك لأن والدي -رحمه الله - قد توفي قبل أشهر، ولم يترك لأمي شيئاً، وهي ترفض أخذ المال من أبنائها، بحجة عدم الحاجة. فاقترح أحد إخوتي، أن تقوم بصنع المعمول، وتبيعه عند بائعة الشاي القريبة من البيت لتشغل وقتها، وتحصل على دخل يكفيها. فاقترحت أنا سعراً مرتفعاً حتى يكون المال من أبنائها، ويوازي ما نود تقديمه لها. كذلك أردنا أن تشعر بقيمتها وأهميتها، وتخرج من مرحلة حزنها على فراق والدي.