د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
(أثر العصر على الفكر)
إنَّ ممَّا يلاحظ أنَّ المتأخِّرين من النَّحويِّين يتلمَّسون عللاً وأوجهاً لم يسبقوا إليها، بل زادوها على أقوال المتقدِّمين وعلى شواهدهم، وإذا عُرف سبب هذا كان ذلك ليس منهم غريباً ولا افتئاتاً على المتقدِّمين خصوصاً ولا على العربيَّة عموماً، وذلك أنَّه لمَّا أن خالط علمُ المنطق والجدل النَّحوَ وداخلها وكذا العلومَ ذات التَّقعيد والتَّعليل الأخرى انبهر أهل العلم بحسن التَّعليل ووجوه التَّأويل من هذا العلم، فسرَّحوا عقولهم في روضه الأُنف، ولا أحسن مثالاً على ذلك من موضوع العلَّة في النَّحو.
لقد دخلت العلَّة إلى علم النَّحو، وتُفنِّن في سبكها وإيرادها، وهي حاضرة في جميع أبوابه وأصول مسائله، بل وفي فروعها، وقد انتهت العلَّة عندهم إلى ثلاثة أنواع وطبقاتٍ، وأنت غير واجد عند المتقدَّمين منها سوى الأولى وربَّما الثَّانية؛ ولذا كان المتأخِّرون أكثرَ تعليلاً وأجرأ تأويلاً من المتقدِّمين، وأسبك حججاً منطقيَّة في العلَّة ومسالكها، بل صنَّفوا كُتباً خاصَّة في علل النَّحو.
والنَّاظر في مدوَّنات المتأخِّرين يجدهم يتلمَّسون عللاً للتَّراكيب وأوجهاً للمسائل لم تُذكر عند السَّالفين، بل وفيها تعليل لأقوال المتقدِّمين، ودونكم كتاب أبي البركات الأنباريِّ الإنصاف عن مسائل الاختلاف بين البصريِّين والكوفيِّين، تجد تعليلات واستدلالات عقليَّة لمذاهب هؤلاء وأولئك، لا تكاد تُذكر عند أسلافهم بصريِّهم وكوفيِّهم.
(غياب العلَّة عند المتقدِّمين):
ولمّا كان علم المنطق وعلوم الحجج العقليَّة ليست من طوارق علوم المتقدَّمين افتُقدَ ذكرها عندهم لا من مانعٍ منه غير ما ذكرتُ إذ لا لنقص فيهم، ولا أنَّ عقولهم قصرت عنها، وليس نقصانها عندهم إزراء بهم ولا هو مثلبة لهم، إذ للقوم موارد يردونها في التَّلقِّي ليس المنطق والجدل منها عند تلقِّيهم العلم في عصرهم، وهو ما يسمَّى في عصرنا بالبرنامج التَّعليميِّ أو التَّكوين العلميِّ، بل علومهم عربيَّة صِرفة؛ لذا قلَّت التَّعليلات عند مَن تقدَّم وكثرت عند مَن تأخَّر، إذن حالها حال قواعد النَّحو وأحكامه فما يُذكر من قواعد وتأصيلات واحتجاج قد لا يعرفه أبو الأسود الدُّؤليِّ لو عرضت عليه، في حين أنَّ أبا الأسود ضابط العربيَّة ومتقنها وفصيحها، وهذه هي الغاية المرومة من تقعيد القواعد، وتأصيل النَّحو، وهذا ليس خاصّاً بالنَّحو، بل هذا عامٌّ في العلوم كلِّها من فقهٍ وغيره فما يقوله العلماء في القرن الرَّابع من أحكام ومصطلحاتٍ قد لا يعرفه أهل القرن الأوَّل لو اطَّلعوا عليه؛ لأنَّ العلوم بدأت شيئاً فشيئاً إلى أن نضجت قواعدها، وضبطت أصولها، واكتملت مسائلها، وبقي ما يستجد مع كلِّ عصرٍ، وما يجدُّ يُحاكم ويعرض على الأصول للوصول إلى الحكم عليه قبولاً وردّاً، تجويزاً ومنعاً.
(طرائق العلم والتَّعلُّم):
العلم معارج، وله في التَّلقِّي مراتب وطرائق، وله في كلِّ عصر قَسَماتٌ وسمات، فالعلماء الأسلاف الأوائل المؤسِّسون إبَّان التَّدوين أمثال الخليل وسيبويه وشيوخه وطبقته ومَن قبلهم، وفي عصره وما قبله يأخذون العلم من العلماء ويشافهون أهل اللسان، يأخذون مادَّة اللسان من أهل اللسان، وهذه السِّمة والمزيَّة تجعلهم في الرُّتبة العليا بلا منازع لهم.
ثم أعقب هذا الجيل أجيال من العلماء، وهذا العاقب انقطع عنه سبيل موردٍ كان يشرع منه السَّابقون، وذلك طريق المشافهة واللقيا بالعرب الفصحاء أهل اللسان، فهذه الطَّريق انقطعت، وبقيت طريق الأخذ من عددٍ من العلماء ثلاثة أربعة أو يزيدون، فيأخذ العلم طالب العربيَّة ويتلقَّاه عن مجموعة من العلماء يجدهم في بلدٍ واحدٍ، أو يسافر إلى عددٍ من البلدان يتلقَّى عنهم.
وقد انسلخت وذهبت هذه الأجيال وجاءت أجيال أخرى، واختلفت طرق التَّلقِّي عندهم وتشعَّبت، فكان من هذه الطُّرق طريق الشَّيخ الموسوعيِّ الجامع لعديدٍ من الفنون، تُؤخَذ منه الفنون كلُّها من نحوٍ، وصرفٍ، وبلاغة، وفقه، وتفسير، وحديث، والطَّالب يتفنَّن بشيخه في جميع فنونه لكنَّما هي من منبع واحد، وهذا له أثره في ذكاء العلم وزكائه، ولهذه الطَّريقة أثر على آراء هذا الجيل تختلف عن أهل تينك المرحلتين الأولى والثَّانية من حيث القوَّة والزَّكاء، والوهج والجلالة، والمتانة وحسن التَّلقِّي، وقوَّة البناء، فهم في رتبة تأتي دون تينك الرُّتبتين.
ثُمَّ جاءت أجيال من طلبة العلم لهم طريقة أخرى كذلك مختلفة إذ يأخذون علمهم من عالمٍ واحدٍ في الفنِّ نفسه، إذ يدرس الفنَّ من المبتدأ إلى المنتهى كالنَّحو مثلاً، يتلقَّاه به شيخه طالباً صغيراً، يدرس عنده مبتدئاً فمتوسطاً فمنتهياً، فيتقلَّب في كتب درجات الدَّرس إلى أن يأخذ من شيخه الإجازة في هذا العلم أو ذاك، كلُّها يتلقَّاها من شيخ واحدٍ قد تدرَّج عنده في كتب هذا العلم أو ذاك، وهذه الطبقة أو هذه المرحلة أو الطَّريقة لها سمتها ووسمها على الجيل نفسه وعلى علمه، ولها صبغة على أقوال أصحاب هذه الطَّريقة في الأخذ والقوَّة والوهج، والغالب عليهم أن يكونوا صدى لقول شيخهم الَّذي نشأوا وتخرَّجوا به، فهو يتلقَّى قول شيخه تلقِّياً لا عن بصيرةٍ، وذلك أنَّه سكن رُوعه ذلك الرَّأي، وقرَّ في ذهنه تأثراً من شيخه، ولذا تجدهم كثيراً ما يقولون في مسألةٍ ما بعد ذكر قول البصريِّ والكوفيِّ: وكان شيخنا يقول فيها ذيت وذيت، وقد ينصر رأي شيخه تقليداً له وإن بدليلٍ ضعيفٍ رديءٍ؛ لأنَّه تلقَّى علمه من مصدرٍ واحدٍ، وإن كان قرأ عليه أكثر من كتابٍ في مراحل التَّلقِّي يزداد الأثر تأثيراً، والشَّيخ له بصمةٌ على هذا الطَّالب إن كان المقروء والمدروس هي كتب الشَّيخ؛ أي: للشَّيخ مصنَّفات للمبتدئين، وعليها شروح له للمتوسِّطين وكذا للكبار، فحاله كسابقه في تأثُّر طلابه بأقواله وآرائه، فإنَّك واجدٌ من يلهج بقول شيخه وينتطق به، وربَّما تلمَّس لرأي شيخه إن ضعُف واستضعف أو عورض دليلاً يقوِّيه وينهض به، على مبدأ اعتقد ثُمَّ استدلَّ. [متبوع]