محسن علي السهيمي
السيرة الذاتية فنٌّ أدبيٌّ أصبح له حضوره اللافت في المشهد المحلي، وهذا الحضور ربما أنه سحب -أو على وشك أن يسحب- البساط من الرواية التي كان لها حضورها اللافت خلال الفترة المنصرمة، وكانت منافسًا للشعر على تسيُّد المشهد الثقافي؛ بل وتغلبت عليه -خصوصًا في المبيعات- وهو الذي كانت له السيادة والريادة منذ أن عرف العربيُّ الكلمة وركَّب منها الجُمل والعبارات. السيرة الذاتية سرد نثري تكتبه شخصية حظيت بشيء من الوجاهة والمكانة والبروز، أو شخصية تسنمت مواقع إدارية ذات قيمة وأهمية، أوشخصية ذات سيرة حافلة بالنجاحات الشخصية البارزة، أو شخصية ذات نتاج أدبي مميز.
الإصدارات المتكاثرة لكتب السيرة الذاتية في المشهد المحلي تجعلنا نتساءل عن وجاهة كتابة السيرة الذاتية وضرورتها، ونتساءل عن مقومات الشخصية التي تستحق أن تدوِّن سيرتَها كاملة وتطرحها للملأ، وعن مضمون هذه السيرة من حيث شموليتها لجوانب شخصية صاحبها كافة (حلوها ومرها، نجاحاتها وخيباتها)، وصدقها في سرد الأحداث وبعدها عن المبالغات والتزييف. الناظر في الكثير من السير الشخصية لا يغيب عنه انحيازها لسرد الجوانب الإيجابية في سيرة صاحب السيرة، وتركيزها على مواقف النجاحات التي تحققت على يديه، يُضاف إلى ذلك تجييرها الجوانب الإيجابية والنجاحات للقدرات الذاتية للشخص صاحب السيرة وإغفالها الروافع الأخرى المحيطة بالشخص التي كان لها تأثيرها الواضح في هذه النجاحات. الملاحظ على أغلب السيَر الذاتية أنها (تميل للإطالة) حتى وصل عدد صفحاتها إلى المئات وهو ما يعني أن أصحاب تلك السيرة لم يتركوا شاردة ولا واردة -وخاصة من الإيجابيات- منذ صيحتهم الأولى عندما خرجوا للحياة حتى آخر قطرة حبر سكبوها إلا ودونها قبل أن يدفعوا بسيرهم للمطبعة، كما يُلاحظ عليها الكَم الوافر من المبالغات والقصص الحافلة بالبطولات والانتصارات والتضحيات، ويلاحظ عليها العصامية والهمة العالية لأصحابها والأفكار العبقرية التي نثروها في مسيرتهم حتى جعلت العسير يسيرًا، وجعلت الخطر مندحرًا وانتصرت للخير والوعي وتجاوزت العقبات والفخاخ وحولت الصحراء الجرداء إلى واحة غناء، وأوجدت المشاريع الكبرى بعد أن كانت مجرد أحلام وخيالات. لكل إنسان سيرة في الحياة -وحياته لوحدها سيرة- ومسألة استحقاق السيرة بالتدوين هذه تخضع لاعتبارات مايزال الخلاف دائرًا حولها، غير أنه بإمكان أي شخص مهما كانت سيرته أن يدونها ثم ينفخ فيها من محسنات الألفاظ وبديع الكلام وقصص النجاحات والبطولات ما يجعلها حديث المهتمين بهذا اللون.
نأخذ على سبيل المثال سيرة الروائي (إبراهيم نصر الله) التي كتبها من وحي مسيرته العملية التي قضى جزءًا يسيرًا منها في محافظة (القنفذة) والجزء الأكبر منها مُعلمًا في محافظتِي محافظة (العُرْضِيَّات) والمحافظتان كلتاهما جنوب غرب السعودية، وذلك قبل نصف قرن وسماها (براري الحُمَّى) وهي في حقيقتها سيرة ذاتية عاش الكثيرُ من مجايليه وأقرانه مثلَها وربما كانت سيرهم أكثر أحداثًا وأصعب مواقف، لكن نصر الله فاق أقرانه بأن دوَّن سيرتَه وصاغها بأسلوب أدبي رفيع أكسبها شهرتها التي بلغت الآفاق، وهذه السيرة لم تحمل من البطولات والنجاحات قدر ما حملت من (الخيبات والانكسارات)، وهذا النوع من السير يقف موقف التضاد من السير التي تحفل (بالبطولات والنجاحات) التي تغص بها صفحات كتب السير اليوم، وهذا الأمر هو الذي أعنيه بهذا المقال؛ حيث إن جيل اليوم القارئ لهذه السير (المثالية البطولاتية كاملة دسم النجاحات) الذي لم تعركه الحياة سيُصاب بالدهشة والذهول أمام هذه الشخصيات الخارقة، والأخطر من ذلك أنه سيصاب (بالإحباط) أمام هذه الشخصيات الحديدية العبقرية التي لم تثنها الخيبات ولا الانكسارات ولم تعرف اليأس ولا الإخفاقات في حياتها فكأنه يقرأ سير معصومين وليسوا بشرًا. ربما يقال إن هذه السير ستغدو ملهمة للجيل، والحقيقة أنها (بهذه الحال) ربما تغدو محبطة له؛ لكونه لن يجد إلا إنجازات تتلوها إنجازات وبطولات تتلوها بطولات وليس هناك مجال للإخفاق أو التقصير، وكأن بأيدي أصحابها عصا سحرية أوهم أقرب للشخصيات المثالية فائقة القدرات، وهذا يولِّد لديه حالة من الإحباط واليأس أمام هذه الكائنات الخارقة التي لن يبلغ ما بلغت، وهذا لا يعني أن أصحاب السير ليس لديهم نجاحات بارزة إطلاقًا، ليس هذا القصد؛ إذ لكل إنسان نجاحاته، وهي تتفاوت من إنسان لآخر، لكن الفارق هو في أن بعضهم عمد للنجاحات وضخمها وأضاف لها مزيدًا من البهارات، وربما اختلق بعضهم نجاحات من نسج خياله، وبعضهم تقمص دور بطل في مواجهة الباطل وبعضهم تقمص دور المناضل في مواجهة الأشرار حتى انتصر عليهم بفضل فطنته وعبقريته، في الوقت نفسه نجد الكثير من كُتاب السير الذاتية يتواطؤون على عدم التطرق للإخفاقات والأخطاء التي وقعوا فيها وإن تطرقوا لها كان تطرُّقهم لمامًا. ما ينبغي أن يدركه أصحاب السير الذاتية أن نجاحاتهم الحقيقية كانت وراءها عوامل كثيرة؛ فصاحب الجاه كان لجاهه دور في ناحاته، وصاحب المنصب كان لمنصبه دور في نجاحاته، وصاحب المال كان لماله دور في نجاحاته، وأحيانًا تكون (المرحلة أو الفترة) عاملا رئيسًا وراء هذه النجاحات، ولو أن هؤلاء سُلبوا هذه العوامل أو جاؤوا في فترة زمنية غير تلك الفترة ربما لم يحققوا شيئًا يذكر، وما ينبغي أن يُدركوه أيضًا أن التاريخ لن يتجاوز إخفاقاتهم وأخطاءهم وكيف حققوا بعض بطولاتهم وانتصاراتهم الوهمية.
أما ما ينبغي أن يدركه القارئ –وخاصة الشباب- لهذه السير هو أنها سير تحمل بعض الصدق وكثيرًا من المبالغات، وأن لأصحابها جوانب قصور وإخفاقات لم يدونوها، وأن الانتصار للذات والنفخ في بطولاتها أمر حاصل، وأن ما يرونه هو الجانب (المُلمَّع) منها، وأن أصحاب هذه السير (المطولة) ليسوا من عوالم خارقة وليسوا معصومين من الأخطاء والفشل، وأن ما تحقق لأصحاب هذه السير من نجاحات تقف وراءها عوامل وأسباب كثيرة، وليس مرد ذلك فقط لعبقريات أصحاب تلك السير، إن لم تكن لدى الشباب هذه المضادات فإنني أخشى أن تكون لهذه السير المبالِغة في المثالية انعكاسات سلبية عليهم تتمثل في حالة من اليأس والإحباط.