حامد أحمد الشريف
يُشكِّلُ مفهوم البداية والنهاية في نظر كثيرين فلسفةً عظيمةً تمتد لتشمل كلَّ مناشط الحياة التي هي في أصلها فسحة من الوقت تبدأ بالولادة أو مرحلة النضج ما قبل البلوغ، وتنتهي بالموت؛ واشتغالنا على هاتين المحطّتين المهمّتين يمكن أن يضمن نجاتنا الحقيقيّة، وهو الأمر الذي نجده في كرة القدم، حيث تشكّل بداية المباراة حجر الزاوية في ما تؤول إليه النتيجة النهائيّة؛ فانطلاقة البداية قد تُضعف الخصم أو تقوّيه، إذ يُناط بها تجهيز كلّ فريق ليخوض المنازلة بكاملها بالمنهجيّة التي تحقّق له الفوز أو توقعه في الخسارة، حتّى أنّ بعض الرياضيّين المخضرمين يستطيعون توقُّع النتائج، وبنسبة كبيرة من الصحّة، بعد مشاهدتهم لأوّل ربع ساعة من أيّ مباراة. وأذكر هنا رأيًا سمعته من اللاعب المصري المعتزل والناقد الرياضي المعروف محمد أبو تريكة، وكان قد أعلن صراحة تشاؤمه من نتيجة المباراة بعد رؤيته لاعبي منتخب قطر عند نزولهم من الحافلة ودخولهم إلى الملعب في مباراتهم الشهيرة أمام الإكوادور في افتتاح مونديال كأس العالم الذي أقيم في قطر مؤخّرًا؛ وبالفعل تحقَّقَ توقُّعُه، وهُزم الفريق بسبب البداية السيّئة التي جعلت اللاعبين يتأخّرون كثيرًا في دخول أجواء المباراة، وظهر خوفهم الشديد من خوض المواجهة الأولى لهم تاريخيًّا في كأس العالم. وهو ما تكرّر حدوثه مع الأرجنتين في مواجهة المنتخب السعودي فكانت البداية الخادعة هي الإسفين الذي قتل النهاية، حين بالغت الأرجنتين في التقليل من شأن السعوديّة، ولم تحترم المنافسة الكرويّة العادلة التي لا تعترف إلّا بالحضور داخل الملعب ولا تُلقي بالًا للتاريخ والقيمة الفنّيّة، فخدمت الكرة يومها من خدمها... وكانت الكارثة التي حلّت بالمنتخب الأرجنتينيّ عندما اغترّ اللّاعبون بالبداية فأهملوا النهاية؛ إلّا أنّ ما حدث جعلهم ينتبهون جيّدًا لخطئهم الجسيم، إذ أدركوا من خلاله قيمة الاهتمام بالبدايات والنهايات على حدٍّ سواء، ووظّفوها في كلّ مبارياتهم اللّاحقة، فهداهم قتالُهم وتركيزُهم وانضباطُهم التكتيكيّ وتقاسمهم الجهد، كأسَ العالم، بكلّ جدارة واستحقاق.
ويمكن القياس على ذلك في مناشط كثيرة، منها المواقف التعليميّة التي تتمّ العناية بها مع بداية الدخول إلى الموقف التعليميّ، وكيفيّة الخروج منه، وكيف أنّ الإخفاق في البداية والنهاية يؤدّي إلى فشل التلقّي وعدم تحقيق الموقف لأهدافه، وبالتالي تعثُّر المعلّم وإخفاق طلّابه. أمّا في مجال التجارة والدعاية والإعلان فإنّ الكثير من المنشآت التجاريّة كالفنادق والشركات الكبرى، تولي هذا الجانب أهمّيّة قصوى، فتُظهر إمكانيّاتها العالية واهتمامها بك من خلال الدعاية المسبقة، والاستقبال المبهر، وتودّعك بالاستبانات والابتسامات التي تعلي من شأنك وتغريك بالعودة مرّة أخرى، بل تدفعك لنصح الآخرين أيضًا بخوض التجربة التي خضتَها... وأذكر هنا أنّني عزمت على اتّخاذ أحد الأنزال مقرًّا دائمًا لي في القاهرة، أعود إليه في كلّ زياراتي اللّاحقة بعد حفاوة الاستقبال وما وجدته بداية من اهتمام ورعاية واستيفاء لكلّ اشتراطات الراحة والهدوء، قبل عودتي عن ذلك بسبب سوء الخاتمة التي أصابت تقديري لهم في مقتل، وجعلتني لا أرى غير تلك النهاية الصادمة؛ وهو ما يجعلنا نقول إنّ البداية هي مفتاح النهاية، وفشلنا فيها يُسقط المشروع، لأنّنا وقتها لن نصل إلى النهاية ولن نستفيد منها - حتّى وإن كانت جيّدة - كما أنّ اجتياز البداية بنجاح لن يضمن لنا تحقيق أهدافنا إن لم تكن النهاية توازيها في القوّة.
ويمكننا أيضًا تلمُّس فلسفة البداية والنهاية في الشعر عامّة، وبالأخصّ الجاهلي منه الذي اشتهر بالوقوف على الأطلال، وجمال مطلع معلّقاته وقصائده، وقيمتها الشعريّة والبلاغيّة التي تضمن اتّصال القصيدة بقارئها وتعلُّقه بها، بغضّ النظر عن محتواها إن كان فخرًا أو مدحًا أو هجاءً أو غزَلًا، وهي الأغراض الشعريّة التي لا تعني غالبًا إلّا المستهدَف بها بالدرجة الأولى، ولا يهمّنا منها كمتلقّين محايدين غيرُ جمال وصفها، وموسيقاها، وقوّة قافيتها، وجزالة ألفاظها، ومعانيها الظاهرة والعميقة... كلّ ذلك قد لا نشعر به، ويذوي في لجّة النسيان، إن لم يكن كلٌّ من البداية والنهاية بالقوّة التي تديم حضور القصيدة في نفوسنا، فنحفظها ونردّدها، كقول طرفة بن العبد في مقدّمة معلّقته الشهيرة:
«لِخَوْلَةَ أطْلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ
تلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ»
وقوله في نهايتها مستحضرًا الحكمة وجزالة اللفظ وقوّة المعنى، حرصًا منه على تعلُّق المتلقّي بها، وهذا يعدّ ذكاءً في نظمه وإن لم يتقصّد ذلك، فهؤلاء الجهابذة كانت سليقتهم بألف قانون، كما يظهر من ردّ الفرزدق على النحوي «ابن أبي إسحاق» حين سأله: «علام رفعت مجلّفُ في قولك:
وعَضُّ زمانٍ يا ابنَ مروان لم يدعْ
منَ المالِ إلّا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ»
فأجابه بمقولته الشهيرة التي أضحت مضربًا للمثل، وتؤصِّل العلاقة بين النحويّين والشعراء في زمن الفصاحة، حين قال له بتعالٍ: «على ما يسوؤك وينوؤك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأوّلوا». وبالعودة إلى طرفة، نجده قد ختم قصيدته العصماء بهذه الأبيات العظيمة:
«سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلًا
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تَبِع لَهُ
بَتاتًا وَلَم تَضرِب لَهُ وَقتَ مَوعِدِ»
وقول امرئ القيس في معلّقته الشهيرة:
«قِفا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزل ِ
بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخولِ فحَوْملِ»
التي أنهاها ببيت من الشعر تجلّت فيه الحكمة والجمال والقوّة، كعادة شعراء ذلك العصر الجميل في اهتمامهم بالتلقّي الجيِّد لقصائدهم، في قوله:
«كَأَنَّ السِّبَاعَ فِيْهِ غَرْقَى عَشِيَّةً
بأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عُنْصُلِ»
وقول عنترة:
«هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ
أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ»
قبل أن ينهيها بقوله مهدِّدًا ومتوعِّدًا، بجمالٍ يفوق الوصف، ما جعل القصيدة تعلق بوجداننا أيضًا، وتستديم حضورها حتّى وقتنا الراهن:
«الشاتِمَي عِرضي وَلَم أَشتِمهُم
وَالناذِرَينِ إِذا لَم أَلقَهُما دَمي
إِن يَفعَلا فَلَقَد تَرَكتُ أَباهُم
جَزَرَ السِباعِ وَكُلِّ نَسرٍ قَشعَمِ»
وبعيدًا عن الشعر وسلاسته وعذوبته وجوامع كلمه، نجد أنّنا - على المستوى الفرديّ - نولي البداية والنهاية جُلَّ اهتمامنا، وإن لم نتقصّد ذلك أيضًا، فنحن قد درجنا في عرفنا الاجتماعيّ على استقبال ضيوفنا بالقهوة، وهي من المنبِّهات القويّة التي تجعل الضيف حاضر الذهن، متوثِّبًا للتفاعل مع اجتماعنا بالقدر الذي يستحقّه من اهتمام وتركيز، وفيها ما يشير إلى كرَمنا وسخائنا، ومحبّتنا لضيوفنا، واحتفائنا بهم، وتجهيزهم للوليمة التي تنتظرهم إن كان حضورهم مطوّلًا؛ وتكون النهاية، في كلّ الحالات، بتحلية أفواههم وترطيب شفاههم بمشروب حلو المذاق يترك أثرًا جميلًا في نفوسهم، فنودِّعهم بكؤوس من الشاي المنعش الذي يزرع الابتسامة الجميلة على شفاههم؛ وغالبًا ما نقف لوداعهم ونحن ننظر إليهم بعيون تنطق بمحبّتنا لهم.
وإذا ما تركنا كلّ ذلك ونحيّناه جانبًا ودلفنا إلى عالم السرد الذي هو مقصدنا من هذا المقال، فعلينا القول إنّ ذلك ما نحتاجه بالضبط في تعاملنا مع ضيوفنا القرّاء عندما يحطّون رحالهم القرائيّة في مضاربنا الكتابيّة، إذ إنّ علينا استقبالهم بالطريقة المثلى التي تليق بذائقتهم وتُحفّزهم على البقاء وتكرار الحضور واستدامته، بما نظهره بداية من حرص على إيقاظ حواسهم الاستيعابيّة، واستنهاض هممهم القرائيّة، وبسخائنا المعرفيّ الذي ينبئ بخير عظيم ينتظرهم من وجبة دسمة وحمولة نصيّة نكرمهم بها؛ ثمّ، إذا ما أشبعنا ذائقتهم، وأرضَيْنا نهمهم، وملأنا ذاكرتهم بما لذَّ وطاب من السرد، ودّعناهم بخاتمة تُديم حضورنا في مُهَجهم، وتطيل تعلُّقهم بكُتُبنا.
ذلك - في ظنّي - ما دفع الناقد المغربيّ الدكتور عبدالملك أشهبون لوضع مؤلَّف كامل عنونه بـ «البداية والنهاية في الرواية العربيّة»، وقد رصدَ من خلاله هذه العتبة الإبداعيّة المهمّة، وقام باستخلاص البدايات والنهايات في عدد كبير من الروايات العربيّة الصادرة قبل تاريخ نشر الكتاب في العام 2013م. وصنّفها وفق معايير شكليّة ونوعيّة وأسلوبيّة من حيث بنياتها النصيّة ووظائفها، وتحدّث عنها وأشبعها استقراءً وتحليلًا ونقدًا، وكشف عن علاقاتها البنيويّة مع بقيّة مكوِّنات النصّ الروائيّ، وصولًا إلى العلاقات القائمة بين البداية والنهاية، وارتباطهما بالنصّ السرديّ في كلّ رواية، وقدرتهما على النهوض بالعمل أو إسقاطه. وكان قد سبقه في الحديث عن هذا الموضوع الأستاذ الدكتور عبد الفتاح الحجمري، الناقد المغربيّ المعروف، إذ خصّه ببحث مُحْكَم تناول من خلاله (حسب عنوانه) «البداية والنهاية في الرواية المغربيّة»، ونُشر عام 1997م.. في مجلّة «علامات» التي تُعَدّ من الدوريّات الثقافيّة المُحْكَمَة المعنيّة بالسميائيّات والدراسات الأدبيّة الحديثة والترجمة، وهي - في ظنّي - من الواحات الرائعة التي لا يظمأ قاصدها، ولا يملّ أو يسأم مرتادها، وأنصح بمطالعتها لمن يبغي الاستزادة من العلم في ما يتعلّق بالسرد وفنونه وتذوّقه ونقده وأساليبه وخباياه، ومتابعة ما يستجدّ عليه؛ ولقد تمّ نشر هذا البحث الأدبيّ في العدد الثامن منها تحديدًا؛ أقتطع منه هذه المقولة الجميلة التي تُلخّص ما نحن بصدده، يقول فيها الحجمري: «يحكم تصوّرنا للبداية والنهاية، بما هما وحدتان سرديّتان، اقتضاء نظريّ وتحليليّ لا يقف فقط عند افترا ض البداية، عالمًا ممكنًا، للانتقال من خارج النصّ إلى داخله، أي الانتقال من عالم الواقع إلى عالم التخييل، والنهاية انتقال من داخل النصّ إلى خارجه، أو الانتقال من عالم التخييل إلى عالم الواقع، بل إنّه اقتضاء يستدعي بحث اشتغالاتهما النصّيّة باعتبار وظيفتهما الحكائيّة في توجيه مسارات الحدث نحو عدّة احتمالات».
ما قاله الحجمري، ببساطة، بعيدًا عن تعقيدات اللغة النقديّة المتعالية أحيانًا والنخبويّة، يمكن إيجازه بالقول: إنّ بداية السرد هي نقطة التحوُّل من العالم الواقعيّ إلى العالم التخييليّ، والنهاية هي نقطة الانعتاق من التخيّليّة وعودتنا مرّة أخرى إلى الواقع، ويقع النصّ السرديّ بينهما؛ ممّا يؤكّد الأهمّيّة القصوى لهاتين المحطّتين في الكتابة السرديّة، اللّتين ينبغي عزلهما بنيويًّا والاشتغال عليهما، حتّى وإن لم يكن ذلك ظاهرًا للقارئ العاديّ، فالخروج من الواقع والدخول إلى الخيال أو العكس، يتطلّبان اشتغالاتٍ وأعمالًا نصّيّةً بدونهما لن نحقِّق أيَّ نجاح، وسيفسد التلقّي الرائع الذي ننشده.
ولعلّ ذلك ما يدعونا إلى القول: إنّ البداية تُعَدُّ العتبة الأهمّ التي يتوقّف عليها نجاح العمل من عدمه، بحكم أنّها الجزء المقروء غالبًا من كلّ الأعمال السرديّة، مهما كانت قوّتها أو ضعفها، فهي تعدُّ بمثابة أنبوب اختبار يُحكم من خلالها على جودة العمل من عدمه، وإن مبدئيًّا؛ وطالما أنّنا ضمنّا بنسبة كبيرة مطالعتها والوقوف عليها من كلّ مقتني الكتاب، أو حتّى متصفّحيه على أرفف المكتبات، فعلينا الاجتهاد لجعلها نافذة رائعة تطلّ على سرديّتنا، وتحفّز على قراءتها، وليس العكس؛ وهو ما جعل الناقد «الحجمري» يستهدف في بحثه السابق بدايات ونهايات مجموعة من الأعمال السرديّة المغربيّة، ولا يتحدّث عن أيّ عتبة أخرى من عتباتها، وهي روايات: «الجنازة» لأحمد المديني، و»لعبة النسيان» لمحمد برادة، و»دليل العنفوان» لعبدالقادر الشاوي، و»بحر الظلمات» لمحمد الدغمومي. الأمر الذي يشير إلى أهمّيّة البداية وقيمتها ومحوريّتها في عالم السرد، وضرورة إيلائها عظيم اهتمامنا وحرصنا.
وقد فهمنا كلّ ذلك واستوعبناه جيّدًا، علينا الإقرار بأهمّيّة البداية والنهاية في الأعمال السرديّة، والقول إنّ القيمة الكبيرة التي يحملها متن العمل الحكائيّ، وتفوّقه السرديّ، لا يغنيان عن هذه التفاصيل المهمّة؛ ولقد وجدت ذلك في بعض الأعمال التي اطّلعت عليها، إذ كانت إشكاليّتها الحقيقيّة في بداية بعضها المنفِّرة ونهاية بعضها الآخر الساذجة أو المتكلّفة والكاذبة، أو اجتماع كليهما في العمل نفسه؛ يحدث ذلك حتّى مع بعض الأعمال ذات الحمولة السرديّة الجميلة والغنيّة، ولهؤلاء ينبغي تكرار القول: إنّه غالبًا لا يُقرأ من الخطاب إلّا عنوانه، وبعض البيوت يُؤنف من دخولها بسبب أبوابها السيّئة وواجهتها الرديئة، وكذلك قد نُحجم عن الاقتراب من القصور الفخمة بسبب سوء استقبال مالكيها وعجرفتهم وتعاليهم وعدم اهتمامهم بنا؛ وهو ما يجعلنا نقول بكلّ وضوح إنّ انتهاءك من مسودّة المخطوطة، وسردك الحكاية كاملة، ونجاحك في حبكتها الروائيّة أو القصصيّة، وقدرتك على صناعة شخصوها، وإبداعك في مشهديّتها وحواراتها وسيميائيّاتها وصراعاتها، واستيفاءَك لكلّ متطلِّباتها القصصيّة أو الروائيّة، لا يعني شيئًا إن لم تجرِ عليها عمليّة الصناعة الاحترافيّة التي - يقينًا - لا قيمة من دونها لكتاباتنا على عمومها، وهي هنا تتعلّق بالوقوف طويلًا عند البداية التي يُفترض فيها الجمال الكتابيّ الأدبيّ الذي يلوي أعناق قرّائها ويزرع الابتسامة على شفاههم عنوة، افتتانًا بها.
وبقدر نجاحنا في تجميل البداية وجعلها مفتاحًا لإبداعاتنا المنتظَرة، بقدر نجاح مخطوطاتنا إن كانت في حمولتها النصّيّة بالقدر الذي ينتظره قرّاؤنا، وإن كان ذلك وحده أيضًا لا يكفي، إذ إنّ الجمال لا يغري بالمحبّة وشدّة التعلُّق، ويبقى دوره ملفتًا فقط؛ فالعلاقات، على عمومها، تحتاج في بداياتها لعوامل أخرى مؤثِّرة، كالغموض المستفزّ والإدهاش المفتعل اللذين يعدّان نقطتين جوهريّتين لا يتحقّق النجاح بدونهما؛ فخلاف ما يعتقد البعض، نجد أنّ الدهشة ليست حكرًا على النهاية وإنّما تعدُّ من متطلّبات البداية وأساسيّاتها، بل من متطلّبات العمل كاملًا، تحضر في معظم أجزائه، وتخلق لنا ما يسمّى بالمفاجآت السرديّة، مع التنبُّه للفرق بين دهشة البداية التي تطرح تساؤلات غالبًا ما تجيب عنها السرديّة في فصولها اللّاحقة أو عباراتها إن كانت قصّة، ودهشة النهاية التي تترك استفهامات بلا إجابة وتعدّ بمثابة مهامٍّ قرائيّة إضافيّة، يكلَّف بها الضيف بعد انتهائه من حلقة التلقّي السرديّ الأساسيّ، ليختبر من خلالها استيعابه وتعمّقه المعاني، ولن يجد ما يعينه عليها إلّا فهمه واستقراؤه الجيّد للسرديّة، وتوظيفه لقدراته العقليّة العليا أثناء القراءة وبعدها، لانقطاع اتّصاله بالسارد عند ورودها.
هذه البداية الإبداعيّة التي أحدّثكم عنها، تحتاج أيضًا إلى مدّ جسور من الودّ مع قرّائنا، بالكتابة الوجدانيّة غير المفتعلة والصادقة التي تجعل القارئ يتعلّق بالمخطوطة مبكِّرًا ويحبّها، ولا يعود يرغب في الابتعاد عنها، مع حرصنا على أن لا تحمل البداية ما يُظهر غرورَنا واعتدادَنا الزائد عن الحدّ بأقلامنا وفكرنا، وهي الصفات التي تكسر رابط المحبّة وتضعف التلقّي، وقد تُفقدنا زوّارنا سريعًا إن لم يكن لدينا القدرة على تمريرها؛ فالبساطة المقنّنة مطلب، والاعتداد المحكم والمنضبط مهمٌّ أيضًا، وقد يضيع السارد بينهما. كما ينبغي أن تكون البداية محفّزة تشير بطريقة خفيّة إلى الجمال والصراع الكبير الذي ينتظرنا، وهو ما يجعلنا نؤكِّد أنّ التشويق والإثارة عنصران مهمّان لا بدّ أن يوضعا في حسباننا عند رسم بداية مخطوطاتنا.
إنّ قدرتنا على صنع البداية بالصورة الإبداعيّة التي نأملها، لا يعني بأيّ حالٍ إغفال النهاية التي لا تقلّ أهمّيّة عنها، فإن كانت البداية تربط القارئ بالعمل وتحفّزه على قراءته، فإنّ النهاية تربط القارئ أيضًا بالقلم نفسه وبالكاتب، وتستنبت محبّتهما والتعلُّق بهما، فلا نجاح لأيّ مخطوطة من دون نهاية تستحضر كلّ جمال السرديّة في لغتها الكتابيّة وبلاغتها ووجدانيّتها وارتباطها بالقارئ، وعدم إهماله في هذه العتبة النهائيّة المهمّة. وهنا تحضر شخصيّة الكاتب المحترف الذي يعي تمامًا ما يفعل. ولعلّه من المناسب القول تكرارًا إنّ النهاية الإبداعيّة تعتمد على ما يسمّى بالمفارقة والدهشة، بشرط المحافظة على واقعيّتها، واندماجها الكلّي مع السرد، وحضورها كنهاية متوقَّعة ضمن الخيارات المنطقيّة الممكنة وإن كانت تخالف تخمينات القارئ المرجّحة، وتتحدّى قدرته على الجزم بها، إلّا أنّه عند وقوعها ووقوفه عليها، لا يستطيع رفضها، وإن غضب منها لكونها أتت خلاف ما كان يأمله ويتمنّاه.
هذه المعادلة الصعبة تُظهر قدرة السارد وإبداعه، فالجمع بين هذه المعطيات المتضادّة قد لا يكون بالسهولة التي نتحدّث عنها، وهو ما يخلق لنا تلك الأعمال الخالدة التي تستديم حضورها في أذهاننا من نهاياتها المزلزلة والعظيمة والأصيلة، وتُوقعنا في منطقة رماديّة نعجز معها عن فهم مشاعرنا المتضادّة حيالها، ونتوه بينها، إذ يصعب علينا الفصل بين معانٍ عدّة وتوصيفات تختلط في أذهاننا، في وقت نشعر أنّنا غير بعيدين عن إدراك أبعاد العمل ومقتضياته؛ فالفهم العميق نشعر به طريحًا بين أيدينا لكنّنا لا نقطع به، وهو ما يجعلنا نطيل التفكير في السرديّة، ونتحاور مع أنفسنا حولها، وقد نصرخ بذلك قهرًا، ثمّ لا نلبث أن نهدأ ونُظهر ابتسامة الافتتان بالعمل، والرضوخ عند حقيقة أنّه بقدر استفزازه لنا استولى على إعجابنا به وانبهارنا ومحبّتنا له، وجعلَنا نؤمن بقدرات الكاتب الإبداعيّة، وقيمة النصّ الجماليّة والمعرفيّة أو - على الأقلّ - أصبح حاضرًا في أذهاننا رغمًا عنّا.
هذه النهايات والبدايات تستحقّ أن نخصّها بالحديث، إذ لا سبيل لإنجاح أعمالنا السرديّة بدونها، مهما كان جمال المتن الحكائي وقوّته، واكتمال نظمه السرديّ، والتزامه بكلّ الشروط والمحدّدات، وهي تُعَدّ من أهمّ أسس نجاح السرد الروائيّ أو القصصيّ الحديث، بل من متعلّقات الكتابة على عمومها، وضمنها بالتأكيد كافّة الأجناس الأدبيّة التي لا يكتمل جمالها من دون بداية محفّزة ونهاية مستحوذة تصنع حضورها وقوّتها، وهو ما يعزِّز إيماننا بأهمّيّة البداية والنهاية بصفتهما الفيصل في حكمنا على الأشياء ومعرفة قيمتها؛ أظنّنا نستطيع الآن وقد بلغنا هذه المرحلة من الفهم والإدراك، الإجابة بثقة كبيرة إذا سئلنا عن أكثر ما ينبغي الوقوف عنده في الكتابة والقراءة، بالقول: إنّها البداية والنهاية، ويأتي المتن بعدهما.