د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
«العلا» تلك المعجزة المكانية التي لم تغب يوماً عن صفحات التاريخ بل حضرتْ قبله؛ هذه الأرض المضاءة المثيرة للتأمل والإلهام تُعانق صيفَها أشعة الشمس وتلاطف سفوحها سحب الشتاء الماطرة وتختال بهدوئها لتستقبل العالم وتُنسجُ على أرضها وبين جبالها مفاهيم السياحة المستدامة والعودة الممتلئة لأنسنة الأمكنة.
وحينما ترسم الشمس خطاً فاصلاً بين بريقها والمنحوتات الصخرية هناك تعبرُ بنا اللوحة بدءاً من الآثار التاريخية في منطقة «الحجر» وصولاً إلى النقوش الأثرية على جبل «عكمة « ومروراً بلمعان النجوم فوق «الغراميل» الصخرية وحتى روعة الريف» في «مزارع شلال» إنها رحلة خارج حدود الزمن هناك يُسردُ خلالها التاريخ في صناعة المكان «وكانت العلا تُسمى «ديدان» في قديم عهدها وهي من أهم المناطق الحضرية لوقوعها على طريق التجارة بين المدينة المنورة وتبوك» «درب التجارة القديم «وطريق البخور والتوابل» وفي «العلا» مقابر منحوتة في الجبال نحتاً هندسياً متقناً وبعض واجهاتها على شكل رؤوس أسود ونقوشاً ثمودية وديدانية ولحيانية ونبطية وكوفية وبها أبراج رصد لطوالع النجوم والأهلَّة، والمسارات الجبلية الرائعة التي استهوتْ هواة السير الجبلي حيث الجبال الرملية الملساء.
العلا اليوم من الخواتيم الآسرة لانبعاث الضوء من صحراء مكتظة بمجتمعات العالم الموغل في القِدم حيث تحمل حواس الأمم البائدة التي يرجع تاريخ وجودها إلى أكثر من 200 ألف عام تحملها بتفرد إلى العصر الحديث، فقد كان تاريخ تلك الأمم الحضاري المعماري غاطساً في حنادسه؛ فأصبحت «العلا» اليوم المكان والتضاريس ذاكرة جديدة، تستجلب النموذج التليد وتُلْبِسُهُ حلةً عصرية، فتوشحتْ «العلا» علامة فارقة في السياحة الحاضرة، وأصبحت تظاهرة سياحية ناصعة كما كانت في ماضيها السحيق أصلاً بارزاً في تاريخ البشرية.
حيث قوة المكان الذي يمكن اعتباره جدّاً من أجداد الزمن إذا ما أُنسنتْ حضارة العلا المعمارية, وبدتْ آثار «العلا» بكراً لم تفقدها الرياح وعوادي الزمن رونقها ووهجها.
وفي العصر الحديث كان اسم العلا يمر عابراً بوصفه تصويراً مقيداً عما اندثر وبقيت آثاره دون استيعاب لذات «العلا» الحضارية أو بوصفها نموذج حضارة تكشف عن جهود البشرية في حقب متتابعة؛ فجاءت بلادنا اليوم وهي تحمل العلا ضمن كنوزها وتعانق الحاضر وتنفتح على المستقبل حيث التركيز على القيم المضافة في استثمار العلا سياحياً ضمن المشروع الكبير للتنمية الوطنية كما تحظى «العلا» اليوم بقوة حضور واسعة في تشكيل وجودها محلياً وعالمياً ورسم ملامحها حيث إنها من أول المواقع المسجلة في اليونسكو من التراث العالمي وذلك مما يمكنها من الاستمرار والمنافسة جذباً وانجذاباً ويتمثل ذلك في التشغيل المتفوق الذي تحظى به «العلا» والدعم اللامحدود من القيادة الرشيدة واهتمام فاخر من سمو ولي العهد حفظه الله؛ فحضرتْ العلا كجدول يهطلُ غزيزاً حتى تبرعمتْ وأثارتْ العلا» الأحاسيس بواقعها المتجلي الحديث التي أعادت إلى الذهن تلك الحضارات التي ينبغي أن تدوم وتمتد ما دامت هناك حياة. وقدّمتْ «العلا» بواقعها الحديث الفرصة للقادمين إليها من أنحاء العالم لاستكشاف الكنوز التاريخية المخفية في أرض العلا من خلال الرحلات الاستكشافية والمغامرات الشيّقة، ومن التجليات المشرقة للوجود العالمي في «العلا» أن العالم عرف شعباً كريماً مضيافاً وتراثاً حضارياً فريداً في بلادنا المملكة العربية السعودية.