د.عبدالله بن موسى الطاير
في إحصائية غير مشوقة للحروب وضحاياها في القرن العشرين تصدرت الحرب العالمية الثانية القائمة بعدد وفيات بلغ نحو ثمانية وخمسين مليونًا، فالحرب الصينية اليابانية الثانية والمتزامنة معها التي حصدت أرواح 25 مليوناً، تلتها الحرب العالمية الأولى بنحو 20 مليون قتيل.
تاريخ البشرية ليس سلمياً، وإنما مهدت الدماء التي سالت لفترات من الاستقرار والنماء النسبي في العلاقات الدولية. نعمت البشرية بفترة من الهدوء مشوبة بالحذر والترقب لعقدين من الزمن بين الحربين الأولى والثانية، ومنذ 1945م لم تتوقف الحروب في غير مكان من هذا العالم؛ فقد كانت الحرب الإفريقية العظيمة (الكونغو الثانية) التي قتلت نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة، وحرب فيتنام بمجموع ضحايا بلغ أكثر من مليون وسبعمئة ألف شخص، وغزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان الذي أزهق أرواح أكثر من مليون ومئتي شخص، والحرب الكورية بالعدد نفسه تقريبًا، والحرب العراقية الإيرانية التي بلغ عدد ضحاياها نحو مليون شخص. أما الحروب التي قل عدد القتلى فيها عن مليون شخص فأكثر من أن تحصى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
وإذ يعتقد المؤرخون أن الحرب الأولى في التاريخ المسجل حدثت في بلاد ما بين النهرين في 2700 قبل الميلاد، فإن أجزاء كثيرة في منطقتنا لم تستقر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ بدأت موجات العنف تتوالى من قيام دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية عام 1948م، وتحولت مع السنين إلى سبب مباشر أو غير في الحروب لتتمكن أو تحيّد منافسيها. أما أوروبا فشهدت منذ نهاية الحرب الثانية، بفضل أمريكا، استقرارًا ونماءً كبيرًا وازدهارًا اقتصادياً ووحدةً جمعت معظم دولها في الاتحاد الأوربي وقامت سوقها على حاجة العالم لمنتجاتها سواء تلك التي أسهمت في المزيد من الرفاه لمن يستطيعون شراءها أو تلك التي أسهمت في المزيد من القتل والتدمير ليستمر ازدهار سوق السلاح الأوروبي.
وبغض النظر عن بعض الحروب التي وقعت في منطقة البلقان، فإن حرب روسيا على أوكرانيا هي الاختبار الأول للأوروبيين منذ 1945م، حيث أثار الغزو الروسي لأوكرانيا تضامن حكومات الاتحاد الأوروبي والسلطات المحلية والمجتمع؛ حيث استقبلوا أكثر من ملايين اللاجئين الذين يشبهونهم لأول مرة منذ نهاية الحرب الثانية، وتكاد انعكاسات الحرب تظهر في كل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. لقد جلبت الحرب الروسية الموت والدمار والبؤس لأوكرانيا، وغيّر الصراع أوروبا كلها؛ وكسر النظام الأمني الأوروبي الذي نشأ بعد الحرب الباردة، وأعاد الحرب الجارية صياغة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا التي تشكلت منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.
على مدى ثلاثة عقود، كانت أسس العلاقات الأوروبية الروسية متكئة على الاعتماد المتبادل في الاقتصاد والطاقة والأمن المشترك، بينما تشكل روسيا اليوم التهديد الأعظم للسلام والاستقرار في أوروبا، وتعاقب بثماني حزم من العقوبات الشاملة التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي، تفضي بشكل منهجي إلى قطع جميع الروابط الاقتصادية. وبذلك فإن فطم أوروبا عن النفط والغاز الروسي ينهي خمسين عامًا من علاقات الطاقة متبادلة المنفعة، ولن تعود العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي إلى سابق عهدها بتاتاً، وستكون روسيا مضطرة إلى اللجوء إلى معسكر الصين، وستجد أوروبا نفسها أكثر اعتمادًا على أمريكا.
خروج روسيا من منظومة محتملة مع أوروبا يعني أنها اتجهت لمعسكر مغاير تمامًا يعد أحد المهددات الرئيسة لأمن أوروبا، ولذلك فإن فرضية الركون إلى جار وحليف محتمل إلى الشرق من أوروبا لم تعد قائمة، وبديلاً عن التكامل الاقتصادي والأمني الذي عُوّل عليه كثيرًا خلال الثلاثين سنة الماضية تجد أوروبا نفسها أمام تحد متجدد لأمنها واستقرارها، وهو ما يدفعها للمزيد من الارتباط بأمريكا.
إذا كانت أوروبا قد استقرت منذ عام 1945م حتى عام 2022م وأسهمت أمريكا بدرجة كبيرة في ذلك الاستقرار، فإن أمريكا مستقرة منذ عام 1865م ولا فضل لأوروبا في ذلك، وهي ليست مهددة من أية قوة مجاورة كما هو حال أوروبا وروسيا والصين، كما أن أمريكا تعتبر مستقلة اقتصاديًا من حيث الطاقة والغذاء والمنتجات الأساسية على عكس القوى العظمى المنافسة لها. ولتبقى أمريكا مستقرة ونامية وسيدة النظام العالمي وحيد القطب فإنها تتحرك في كل اتجاه لإبقاء أعدائها ومنافسيها منشغلون عنها بتحديات أسهمت هي في صناعتها. ولأي مراقب موضوعي، فإن أمريكا ستبقى محور النظام العالمي لفترة قادمة قد تطول، ولن تتزحزح عن عرشها سوى بحرب أهلية داخلية. رهانها على قوة نظامها الداخلي واكتفائه، وإشغال منافسيها ببعضهم، ورهان الآخرين على انقساماتها الداخلية.