د.فوزية أبو خالد
بعد تخرجي من المرحلة الثانوية التحقت بجامعة الملك عبدالعزيز فترة قصيرة لريثما يتم ترتيب أوراقي للالتحاق بالجامعة الأمريكية ببيروت وقد عمل والدي ووالدتي على التفاهم مع أفراد أسرتنا الممتدة وحسم الأمر لصالح دراستي في الخارج، وفي تلك الأثناء كانت المرة الأولى التي أدخل فيها حقيقة لا مجازاً مكتبةً بالمعنى المتعارف عليه للمكتبات سواء من حيث المحتوى أو من حيث التصنيف المكتبي.
وجدتُ بمكتبة الملك عبدالعزيز ضالة المؤمن خاصة في قسم دراسات العلوم الإنسانية وقسم الأدب من الشعر بأنواعه وعصوره إلى النثر والسرد الروائي والقصصي ومن الملهاة الإغريقية إلى الدرامى العالمية للمسرح. وكما جاءت جامعة الملك عبدالعزيز نفسها بمبادرة أهلية من سكان جدة ومكة المكرمة ونخبها المستنيرة، باركها وتبناها في حينه الملك فيصل طيب الله ثراه، كان ملفتاً أن عدداً كبيراً من الكتب كانت إهداءً من أدباء الحجاز لمكتبة الملك عبدالعزيز مثل أ. محمد حسين زيدان وأ. محمد حسن عواد، الشاعر محمد حسن فقيه، الشاعر والمفكرحمزة شحاته، الشاعر والمحامي ضياء الدين رجب، الشاعر عمر قنديل، الأديب والوزير محمد توفيق رحمهم الله جميعاً. وقد بقي عالقاً في ذهني ختم واسم الأستاذ عبدالله عبدالجبار لكثرة الكتب المهداة منه وخاصة كتب النقد الأدبي والمسرح. ولعلني انغمست في تلك الينابيع «طيحة» ظمآن في «زليب/ قليب» أو «طيحة «جائع وقع على «قلة تمر» مسبكة في «مريس» بمعنى كظمآن ألقى نفسه في بئر أو جائع ارتمى على وعاء تمر بدبسه. وكم أنا فخورة الآن وقد ربت ونمت تلك المكتبة وأصبح لها حضورٌ إلكترونيٌّ وبها نخبة من الأستاذات والأساتذة البارعين في تخصص المكتبات وتعميق حضورها في الجامعة والمجتمع ومنهم د. حسن السريحي، د. عبد الرشيد حافظ، د. فالح الضرمان، د. سوسن طه ضليمي، د. هدى محمد باطويل، د. إيمان باناجه.
****
مكتبة الجامعة الأمريكية
غير أني بانتقالي إلى الجامعة الأمريكية منتصف عقد السبعينيات انتقلتُ إلى عالم جديد من المكتبات والكتب، وعليّ أن أعترف أنني وجدتُ في تلك المكتبة المزروعة ببنائها العريق المتين كمعبد أمام بوابة الجامعة المدخل الرئيسي بشارع بلس كل ما لا عين رأت وما لا أُذن سمعت (على الأقل عيني وأذني وقتها) من ملذات الوجدان وموجدات الفكر. فتلك المكتبة التي تأسست 1866م ولازالت تعتبر من أهم مؤسسات المكتبات بالعالم العربي تجسد بامتدادها المعنون باسم نعمة يافث في تجربتي الشخصية وفي تجارب عدة أجيال العثور على الفردوس المفقود على الأرض وتجعله في متناول اليد لأولئك الذين قادهم أو يقودهم الحظ ليكونوا عشاقاً للمعرفة في تلك البقعة من العالم التي لايشغلها شاغل في الوجود إلا الاحتفاء بالكتب.
ففي تلك المكتبة التي تحوي مايفوق عدده 500 ألف كتاب وآلاف المخطوطات والدوريات تعرفت لأول مرة على نافذة جديدة من أوعية الكتب تتنوع من الميكرو فيلم إلى الميكرو فيش. وقد تعرفت في تلك المكتبة على أقدم الصحف في العالم العربي وفي وطني وعدتُ لأعداد من صحيفة أم القرى لأقف على بداية الصحافة في بلادي، ومنها اطلعتُ لأول مرة على التاريخ الحقيقي وليس التخميني أو المفترض لتاريخ ميلادي بالتقويمين الهجري والميلادي. في مكتبة الجامعة الأمريكية عملت أول بحوثي الجامعية لمقرر البيولوجي عن «أطفال الأنابيب»، وعدتُ فيها لمادة الرياضيات لكتب في الجبر باعتزاز بالمرجعية الحضارية العربية الإسلامية. في تلك المكتبة تأملتُ شباباً ينحنون على الكتب لساعات طويلة وكأنهم ذكوراً وإناثاً مرضعات صبورات أو أطفالٌ ليس لفطاهم عمرٌ محددٌ، وفي تلك المكتبات قرأتُ تطوعاً ليس في كتب الأدب وعلم الاجتماع الكلاسيكي منها والحديث وحسب بل قرأتُ بفضول تاريخ الثورات الاجتماعي والسياسي وخاصة الثورة الفرنسية والثورة الروسية قرأت ثلاثية نجيب محفوظ، ورواية الأشجار واغتيال مرزوق وسواها من كتابات عبدالجمن منيف، وكتابات غسان كنفاني وإميل حبيبي ومذكرات جيفارا ومذكرات إنجلا ديفيزوكل الكتب التي كنتُ أشتهي قراءتها ماقبل مرحلتي الجامعية ولم تكن في متناول يدي
****
Watzek library مكتبة الجامعة بكلية لويس اندكلارك
في هذه المكتبة المنحوتة داخل غابة من غابات الشمال الغربي الأمريكي قضيت أصعب وأجمل الأوقات. فإذا كنتُ قد انتقلت من مكتبة أمي ببيتنا بجدة/ مكتبة النور والفوز بسلاسة نسبية إلى مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت، فلم يكن لبنان بذاك البعد الجغرافي عن المملكة، ولايزال الود الذي أحمله في ذاكرتي من بعض طفولتي في جبل لبنان طرياً وطازجاً يؤنس وحشة الرحيل الأول لي بعيداً عن أحضان أسرتي كما أن لبيروت رهجة في الوجدان تشد كل من تعلق قلبه بالثقافة وقتها باعتبار قبلة الكلمة الحرة ومحجة الأدباء الفارين من أنحاء العلم العربي الأخرى بهواهم المعرفي أو الإبداعي من حضرموت للعراق ومن سوريا لفلسطين، فإن الانتقال لقارة أمريكا الشمالية للدراسة في عمر غض قد شكل لوعة لم تختبرها مشاعري ولم يمر بها جهازي العصبي من قبل. لا أتحدث عن أي صدمة حضارية في هذا السياق ولكن أتحدث عن الصدمة العاطفية في البعد عن أهلي ووطني هذه المسافات الضوئية وأن لا يكون متاحاً أن يأتي أبي لزيارتي في أي لحظة كما كان يفعل أثناء دراستي بلبنان وأن لا أكون قادرة على استنشاق هواء السعودية والالتفاف بجلال أمي في ظرف ساعتين ثلاث من الزمن كما كان متاحاً لي إبان الوقت القصير لدراستي بالجامعة الأمريكية. ففي أمريكا صحيح الأرض خضراء خضرة فردوسية ولكن المزار الذي أهوى بعيد بعيد ولم يكن لي مهرب من تجريح الحنين لأحشائي إلا مكتبة وياتزيك. أظن أنني لا أبالغ إذا قلتُ أو بالأحرى كتبتُ أنني ظللتُ لأشهر بعد وصولي مدينة بورتلاند بولاية أوريجن لا أعرف مكاناً يمكن أن أذهب إليه فراراً من وحشتي واستشفاءً من تباري الفراق ومن أشواقي إلا المكتبة الواقعة في قلب الحرم الجامعي باهظ الجمال بكلية لويس اند كلارك. هناك أعكف على قراءة ليس المراجع العديدة التي يقررها علينا برفيسور كانون في مواد علم الاجتماع فقط ولكني أنغمس بكل حواسي في قراءة شعراء أمريكا الذين أدرس نماذجَ من إنتاجهم التي يعرضها لنا الشاعر برفيسور فيرن روتسالا في مقرر شعراء أمريكا المعاصرين. بجانب اعتكافي على قراءة كل ماخلته قد يعرفني على المجتمع الأمريكي نظامه السياسي، إمبرياليته، استهلاكيته، حرب فيتنام، حركة الهيبين، وقف العبودية، المكارثية، سيرة إبراهام لينكون، مارتن لوثر كينج, روز بارك.. وقد كانت المكتبة مشحونة بكل الكتب الممكنة في نقد أمريكا ونقد نظامها السياسي والاقتصادي بل ونقد النظام التربي الرأسمالي وثقافته السائدة. فتعلمتُ من أمريكا وفي المكتبة الجامعية بأمريكا كيف أنظر لأمريكا ونظامها دولتها «العظمى» ليس بعين الرضا ولا بعين الانبهار بل بعدة عيون تحليلية فاحصة وناقدة، ناقمة أحياناً وأحياناً أكثر متسائلة.
يتبع