م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. العقل المنقاد الخانع الخاضع القانع الذي يقوده كل من أخذ بيده أو ساقه بعصاه كبهيمة الأنعام هو العقل الذي لا يعرف كيف يفكر أو يخاف أن يتساءل، ويظل دائماً تابعاً يسير خلف من أمامه حتى لو قاده إلى التهلكة.. هذا العقل لا يَتْبِع غيره إلا لأنه غارق في الوثوقية فهو يسير كالأعمى تهيمن عليه المُسَلَّمات التي لُقِّن بها.. ومع جموده الفكري فإن دعاءه الدائم هو «الله لا يُغَيِّر علينا».
2. العقل التابع عقل غير منتج، بل هو عقل مُقْعَد عاجز، لذلك يُسمى أصحابه بالرعاع.. وليس وارداً في تفكيره التطور والتقدم وروح المغامرة والاكتشاف.. لذلك فهي عقول ترغب بمن يقودها أو يسوقها ويُرِيها ما يرى فتسير وفقه.. من هنا فهي ترحب أيضاً بدعوى توحيد مصادر التلقي حتى لا ترتبك، لأنها لا تعرف كيف تختار ولا ماذا تختار.. وهذا الأمر الكارثي على أي مجتمع يدفع القائمين عليه إلى العمل على تعويد أفراد المجتمع على التفكير النقدي، فهذا ليس أمراً ثانوياً بل هو قرار حاسم في نمو وارتقاء الأمم.
3. التفكير النقدي في نظر مفكري التنمية ليس محوراً من محاور التنمية بل هو المحور الأهم الذي تنطلق منه بقية المحاور.. فمن خلال التفكير النقدي تظهر الوجوه الأخرى للرأي، وتبرز الزوايا المختبئة للفكرة، وتتجلى الشبهات حول المُقْتَرَح.. ويصبح القرار مُتَّخذاً وفق قواعد قد استوعبت كل الاحتمالات وأعدت العدة لكل التحديات أو الفرص المحتملة.. ليس ذلك وحسب بل إنها تفجر الطاقات، وتضيء منابع المعرفة والتجارب الجديدة، وتجعل الجميع مشاركين بفهم وقناعة وليسوا فقط أدوات تنفذ دون فهم أو سؤال.. العقل الناقد حتماً يجد الإجابة المقنعة له لتصبح تلك الإجابة حافزاً مؤثراً ودافعاً مثمر النتائج.
4. الإنسان السوي بفطرته كائن متسائل.. والإنسان تحكمه غريزة البقاء وفطرة الارتقاء.. والارتقاء لا يكون إلا بالتساؤل، والشك بالكائن والرغبة في تطويره من خلال تسريعه أو تجويده أو تعظيمه أو تكثيره.. وهذه السمات لا تأتي إلا من عقل مبدع يفكر ويحلل ويقارن ويجرب ويكشف.. عقل يقظ يفحص المُسَلَّمات قبل أن يقبلها ويتحقق من الثوابت المتوارثة قبل أن يؤمن بها.. من هنا فإن العقل الناقد أساس أي ازدهار تنموي يعيشه أي مجتمع يسعى للتطور الحضاري.. وأن الاستسلام للقضايا المتوارثة هو الخطأ المريع الذي يمكن أن يقع فيه أي مجتمع.
5. أهمية النقد أنه لا يتم إلا بالتفكير، والتفكير لا يحدث هكذا من تلقاء نفسه بل لا بد له من محفز ودافع، وهذا يتمثل بالحس النقدي الذي يبدأ بالتساؤل.. وإجابة التساؤل لا تكون إلا بالبحث والدراسة والاطلاع والاكتشاف.. وهذا بدوره يفتح آفاق العقل ويرفع من قابليته لتلقي الأفكار واستيعاب المتغيرات، ويتنبه للتحولات حوله، ويرفع من مرونته واستعداده لمراجعة أدائه، وتصحيح مواقفه وتعديل أحكامه.. فكل تطور بشري على كافة المستويات يكون على حساب فكر وممارسات سائدة سابقة إما بتطويرها أو تصحيحها.. وهذا يواجه مقاومة من رافضي التغيير الذين ليس لديهم مَلَكَة التفكير الناقد.. ثم بعد انتصار ذلك الفكر التطويري الجديد يصبح له أتباع يرفضون أي تعديل مستقبلي له.. وتعود الكَرَّة من جديد، هكذا تسير الحياة.