د. محمد بن عويض الفايدي
تتمثّل الجوانب التي يقيسها مؤشر مدركات الفساد في 13 بنداً أبرزها الرشوة، واختلاس المال العام، والتكسّب من الوظيفة، وتكريس مبدأ النزاهة، وسهولة الوصول للمعلومات بالإفصاح والشفافية، واحترام حقوق الإنسان. وضمان ملاحقات قضائية وجنائية حقيقية للمسؤولين الفاسدين.
تجري الاستعانة بـ 13 مصدراً لإعداد مدركات الفساد العالمي من أهمها البنك الدولي، والبنك الإفريقي للتنمية، والمنتدى الاقتصادي العالمي، وتصنيف المخاطر للبلدان الصادر عن منظمة غلوبال إنسايت، والاستشارات الخاصة، ومراكز الأبحاث وغيرها من آراء الخبراء ورجال الأعمال واستطلاعات الرأي.
بحسب رأي المنظمة أن حسابات المؤشر قوية ومتماسكة قدر الإمكان، في حين أن الواقع غير ذلك لتركيزها على القطاع العام بينما الآن تحولت معظم الدول إلى خصخصة الأنشطة وأصبحت معظم الأعمال والمهام تؤديها شركات عابرة للقارات بما فيها خوض الحروب والمعارك والخدمات الأمنية والخدمات العامة.
تُصنف الدول على مؤشر مدركات الفساد بحسب ممارسة الفساد فيها ويعكس ترتيب الدول جانباً من واقع الفساد المعيش لدى الدول. فطبقًا لتقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2021م نجد العشر دول الأقل فسادًا هي حسب الترتيب في المركز الأول نيوزيلندا والدنمارك بدرجة 87، وبالمركز الثاني فنلندا بدرجة 86، وفي المركز الثالث سويسرا وسنغافورة والسويد بدرجة 85، وفي المركز الرابع النرويج بدرجة 84، وفي المركز الخامس هولندا بدرجة 82، وفي المركز السادس لوكسمبورج وألمانيا بدرجة 80. بينما كانت العشر دول الأسوأ حالاً والأكثر فسادًا رقم 1 الصومال بدرجة 9، ورقم 2 جنوب السودان بدرجة 12، ورقم 3 جاءت سوريا بدرجة 13، وجاءت اليمن رقم 4 بدرجة 15، في حين تجمعت برقم 5 دولة السودان، وأفغانستان، وغينيا الاستوائية، وفنزويلا بدرجة 16، بينما وقعت برقم 6 كوريا الشمالية بالدرجة 17، وفي رقم 7 أتت غينيا بيساو بدرجة 18على مؤشر مدركات الفساد العالمي.
نصيب الدول العربية من هذه الظاهرة كان مسطوراً، فقد جاءت خمس دول عربية مرتبة حسب أقلها فساداً على مؤشر مدركات الفساد العالمي، حيث أتت بالمركز 24 الإمارات بواقع 69 درجة، وفي المركز 31 قطر بواقع 63 درجة، وفي المركز 52 المملكة العربية السعودية بواقع 53 درجة، وفي المركز 56 سلطنة عمان بواقع 52 درجة، وصُنفت في المركز 58 الأردن بواقع 49 درجة. أما الخمس الدول العربية الأكثر فساداً فجاءت الصومال وسوريا بالمركز 178 بواقع 13 درجة، ثم أتت اليمن في المركز 174 بواقع 16 درجة. وبعدها جاءت ليبيا في المركز 172 بواقع 17 درجة. أما جنوب السودان فكانت بالمركز 164 بواقع 20 درجة.
يٌشير مجمل إحصاءات مؤشر مدركات الفساد إلى أن الدول التي تصدرت المؤشر هي نيوزلندا والدنمارك وفنلندا تحت درجة 87، والذي يُعكس عدم خلوها من الفساد مما يؤكد أن جميع دول العالم تُعاني من الفساد الذي يتفاوت في حجمه وحدته ومستواه. وبحسب مجمل الإحصاءات فإن المتوسط العالمي لمؤشر مدركات الفساد ظل منذ 10 سنوات على التوالي عند 43 درجة دون تغيير أو تحسن يُذكر. كما أن ثلثي دول العالم سجل أقل من 50 درجة، والذي يؤكد ارتفاع حجم الفساد في معظم دول العالم مما أسهم في تعميق التخلف وإعاقة برامج التنمية خاصة في الدول النامية والفقيرة.
ما يُثير الدهشة أن دول الاقتصاديات الكبيرة ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، والصين، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، والصين وغيرها من هذه الدول لم يظهر أي منها ضمن الدول العشرة الأقل فسادًا. والذي يعني أن الدول المتقدمة ذات الاقتصاد الأكبر حظها أكثر من الفساد. وأن أكبر الشركات العالمية لها باع في الفساد فشركة «توتال» الفرنسية تورطت في العديد من قضايا الرشاوي. كما وقعت شركة «دايملر» الألمانية صاحبة علامة سيارة مرسيدس الشهيرة في صفقات فساد ضحمة. وتورطت شركة «إيرباص» الأوروبية في أكبر قضية فساد في تاريخ الشركات، في حين دفعت مليارات من اليورو في قضايا فساد، ودفعت غرامات أيضًا لتسوية هذه القضايا. كما قامت شركة «سيمنز» عملاق الصناعة الألماني بدفع رشاوي بمليارات الدولارات داخل ألمانيا وخارجها للاستحواذ على عدة عقود.
قامت شركة الصناعات الجوية والدفاعية «بي إيه إي سيستمز» العملاقة بالتورط في قضايا فساد ضخمة لتمرير صفقات أسلحة في عدة دول. وقد ضلعت «شركة كيلوج براون أند روت» الأمريكية العاملة في مجال البناء في قضايا فساد بمليارات الدولارات. وأيضًا تورطت شركة النفط الصينية «بتروشاينا» وشركة صناعة السيارات الأولى الصينية بقضايا فساد.
سددت شركة «جلاكسو سميثكلاين» البريطانية أحد أكبر شركات الأدوية في العالم غرامات بمليارات الجنيهات لتسوية قضايا فساد ضخمة تتعلق بمنح أموال للأطباء من أجل التوصية بأدويتها، بعد أن حققت الشركة البريطانية مكاسب تفوق عشرة أضعاف تلك المبالغ. ويبدو أن بريطانيا أضحت تحصد الآن ثمن ذاك الفساد، حيث أعلنت آلاف الشركات في بريطانيا إفلاسها في صورة غير مسبوقة من التعثر المالي والاضطراب الاقتصادي في بريطانيا. في هذا الإطار فإن العديد من الشركات العملاقة تؤسس شركات قشرية «قصديرية» بما يسمى بالملاذات الضريبية للإفلات من المساءلة القانونية، والتي تستخدّم أحيانا لغسيل الأموال وإخفاء الرشاوي وأسماء المسؤولين الفاسدين. ولا تزال الصومال وسوريا 13 درجة وجنوب السودان 11 درجة في أسفل سلم مؤشر مدركات الفساد خلال العشر سنوات الماضية.
تراجعت 154 دولة ولم تحرز أي تقدم يذكر على هذا السلم. كما أن اقتصاديات كبيرة مثل أستراليا 73 درجة وكندا 74 درجة والولايات المتحدة الأمريكية 67 درجة جميعها لم تحظ بانخفاض على مؤشر مدركات الفساد. واللافت أن الولايات المتحدة الأمريكية خرجت من مجموعة أفضل 25 دولة على المؤشر. ويبدو انه جائحة كورونا كوفيد 19 أدى لتدهور أوضاع كثير من الدول على المؤشر. وفي هذه السياق ترى المنظمة أن السلوكيات الاستبدادية وراء ذلك، حيث تقع سيطرة الحكومات على الأعمال والإعلام، وفي أيدي قلة من الناس. وفي ظل هذا الواقع تظل الجهود الاجتماعية هي الضابط الأخير للسلطة، وأن الأثر الذي يمتلكه المعلم والتاجر والطالب وعامة الناس في جميع مناحي الحياة هو الذي يؤدي في النهاية إلى تحقيق المسألة وبلوغ نتائج إيجابية لفضح الفساد والحد منه.
على مستوى البيئة العربية أتت الثلاث دول العربية الأقل فسادًا من مجلس التعاون الخليجي حيث جاءت دولة الأمارات في المركز 24 بواقع 69 درجة، ودولة قطر في المركز 31 بواقع 63 درجة، والمملكة العربية السعودية بالمركز 52 بواقع 53 درجة. وقد تجاوزت درجات هذه الدول الـ 50 درجة من100 على مؤشر الفساد العالمي الذي كان متوسط الدول العربية عليه 34 % بين دول العالم. فيما احتلت دولة سوريا، والصومال، واليمن، مراكز متأخرة جداً على المؤشر، ودرجاتها تراوحت ما بين 13 - 16 وترتيبها 178، 174،178 على التوالي. وجميع هذه الدول تعاني من وضع سياسي وعسكري وأمني غير مستقر، كما اختلت فيها أُسس استقرار الدولة وسادة فيها الفوضى العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية. والذي يشير إلى أن معظم الدول العربية مازالت لا تمتلك الإرادة الجادة للتصدي للفساد ولا يوجد لديها ثقافة مجتمعية راسخة لمكافحته نتيجة للازمات الاقتصادية والاجتماعية وسوء الإدارة وتدني الخدمات وانعدام التوازن في فرص التنمية وتفشي الفقر والبطالة. والذي يولد مناخ اجتماعي عام يائس متقبل لثقافة الفساد تحت هيمنة إدارة تشتيت وبعثرة الموارد بطريقة مرتجلة تؤصل البيروقراطية بمفهومها السلبي الذي يجعل من الروتين والتعقيد أسلوب ممارسة لفرض منطلق «الأمر الواقع» الذي بدوره يؤدي إلى تعميق جذور الفساد في المجتمعات مما يجعلها تتقبل وتتعايش مع الفساد بكل صوره وأشكاله، وقد تتفاعل معه وتنصهر فيه حتى الوصول إلى مرحلة أن الفاسد لا يشعر أنه في الأصل فاسد، وبالتالي يستسلم المجتمع للفساد مما يجعل التخلف سمة ملازمة للمجتمعات والدول الفاسدة.
مفهوم الفساد أشبه بمفهوم الإرهاب الذي لم يتفق المجتمع الدولي على مفهومه وتتجاذبه أيديولوجيات متباينة يُفسر من خلالها بحسب المصلحة. وكذلك الفساد الذي إذا ما اقترب من الانتهاء من شعار مكافحة الإرهاب كأداة للتدخل في السياسة الداخلية للدول وشن الحروب عليها والاستيلاء على مقدراتها وقهر شعوبها فإن مكافحة الفساد في المستقبل قد تكون هي الذريعة والسلاح الأكثر مضياً لرفعه كشعار من قبل الأقوى للتدخل في شؤون الدول الأخرى وقهر شعوبها ونهب مقدراتها والاستيلاء على مواردها. ولعل أدل نموذج على ذلك نظام الفائدة غير العادل الذي يُعد أحد الأسباب الجوهرية لاضطراب النظام الاقتصادي والنقدي العالمي ومن أبرز المشكلات التي تعتريه، وأن مزاج السياسات المالية العالمية غير المستقر بخفض قيمة عملات ورفع قيمة عملات أخرى في تجاذب مبطن بين قوى تُمعن في إنهاك الدول النامية والفقيرة ليتعمق الفساد فيها أكثر. ولكنه ما يلبث أن يرتد في هجمات عكسية شرسة ظهرت ملامحها في الدول القوية والمتقدمة في صور ضخامة حجم الديون العامة، وانخفاض ميزان المدفوعات، وإفلاس الشركات ليبدو حتمًا وكأنها بدأت تنهار من داخلها بالأداة ذاتها «أداة الاقتصاد والمال» التي تخطت بها إلى أعماق دول أخرى ونهبت ثرواتها ومواردها، وكأن الحرمان يُورث حرمان والفساد يخلق فساد أشد وأعتى.
ما لم تقر دول العالم بكل منظماتها وهيئتها بأن الفساد جريمة يطالها القانون ولا جدال في ذلك ولا ينبغ معالجتها إلا في إطار نظام عدالة جنائية مستقر يشمل القطاع العام والخاص، فسيظل الفساد بوجهه القاتم يقضي على المنافسة النزيهة، ويبدد الموارد، وينمي الوهن والعجز، ويقضي على المواهب والطاقات المتميزة، ويدمر المنتج الاقتصادي والخدمي والنتاج الفكري، ويُهمش الطموح والعمل الجاد على كل خارطة العالم وبين كافة دوله.