د.سالم الكتبي
هناك تقارير رسمية وإعلامية عديدة تتحدث عن خسائر روسية توصف بالفادحة في حرب أوكرانيا، سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري، ولاسيما ما يتعلق منها بالتقديرات الخاصة بأعداد ضحايا الجيش الروسي التي تشير صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير لها نشر مؤخراً، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين وغربيين - إلى أنها تقترب من 200 ألف جندي روسي، وأن هذه الخسائر التي حدثت في نحو 11 شهراً فقط تفوق الخسائر الأمريكية في أفغانستان خلال عقدين بنحو ثمانية أضعاف. وهناك تقارير أخرى تتناول خسائر روسيا على الصعيد الاقتصادي والإستراتيجي، ولكن التحليل الموضوعي يشير إلى أن هذه الخسائر في مجملها -بافتراض صحتها ورغم فداحة الأرقام المزعومة في هذا الشأن- قد لا تعني الكثير بالنسبة للجانب الروسي، حيث يصعب المقارنة بين الحالتين الأمريكية والروسية لجهة تأثير الخسائر في صنع القرار، بحكم اختلاف طبيعة النظام السياسي في البلدين.وانطلاقاً مما سبق، وفي ضوء السعي الغربي الحثيث لكسر إرادة روسيا في حرب أوكرانيا، حيث تتمحور الخطط الغربية منذ بداية الحرب في مجموعة من الأهداف أهمها ما يتعلق بضرورة هزيمة روسيا في هذه الحرب، وهنا يمكن الإشارة إلى حزمة من تصريحات ومواقف القادة والمسؤولين الغربيين، حيث قال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل في مارس 2022 إنه لابد من هزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مشيراً إلى أن هذه مسألة أمن بالنسبة لمستقبل أوروبا والعالم، وعلى النسق ذاته ذهبت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز تراس، حين قالت «إن إستراتيجيتنا هي هزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا»، وغير ذلك هنالك الكثير من المواقف والتصريحات الغربية، وهو ما انعكس في حديث وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر الذي نصح الغرب بالتوقف عن محاولة إلحاق الهزيمة بالقوات الروسية في أوكرانيا، واعتبر أن ذلك سيكون له عواقب وخيمة على استقرار أوروبا على المدى البعيد، محذراً الغرب من الاستغراق فيما وصفه بـ»مزاج اللحظة»، أي الاستسلام لفكرة إلحاق الهزيمة بروسيا، داعياً إلى أن هدف الغرب التفاوضي يجب أن يكون العودة إلى الوضع السابق قبل اندلاع الحرب، ما يعني التخلي رسمياً عن أراضٍ أوكرانية لروسيا، أي الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم.قناعتي أن جزءاً كبيراً من دوافع تمسك الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين بهزيمة روسيا أو على الأقل إضعافها في حرب أكرانيا يرتبط بالمواجهة بعيدة المدى مع الصين وليس بعيداً عنها، لأن جزءاً مهماً من صراع النفوذ والهيمنة على النظام العالمي القادم يتمحور حول استقطاب روسيا، سواء من جانب الصين أو من جانب الغرب، ولأن الأخير قد تيقن من فشل محاولات الشراكة التي جرت مع روسيا طيلة العقد الماضي، فقد اعتمد فكرة إضعافها ولاسيما بعد أن رأى في حرب أوكرانيا فرصة سانحة لتحقيق هذا الهدف الحيوي.
الواقع يقول إن هزيمة روسيا في حرب أوكرانيا تبدو صعبة للغاية لأسباب عدة لا تقتصر على رفض الرئيس بوتين والنخبة الروسية فكرة الهزيمة بشكل حاسم ومطلق حتى لو أدى الأمر إلى استخدام السلاح النووي، ولكن أيضاً لأن الأدوات الغربية المستخدمة في مواجهة روسيا على الساحة الأوكرانية ليست كافية لتحقيق هذا الهدف، فالاقتصاد والعقوبات لم تحقق الهدف المرجو في الحالة الروسية ولا في حالات أخرى، كما أن الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا لا يبدو كافياً للاقتراب من فكرة تحقيق نصر عسكري كامل على القوات الروسية، وبالتالي لا يمكن استبعاد فكرة حسم الحرب لمصلحة روسيا ولو من الناحية الإستراتيجية وليست العسكرية، بمعنى تحقق أهداف روسيا في هذا الصراع، وهنا ينحصر الأمر في مسألة الاعتراف بسيطرة روسيا على أراضٍ أوكرانية، وتحقق أهداف أخرى مثل تحييد أوكرانيا ووقف التمدد الأطلسي باتجاه حدود روسيا، وهو ما يُعد في مجمله انتصارًا إستراتيجيًا روسيًا في الصراع الدائر مع الغرب بغض النظر عن الخسائر الاقتصادية والبشرية التي يمكن أن تلحق بالجانب الروسي.
هذا التصور أو السيناريو لا يمكن استبعاده، بل هو الأقرب للتحقق في ظل الشواهد الراهنة، الأمر الذي سينطوي على تداعيات سلبية كبرى بالنسبة للغرب ليس فقط على صعيد التموضعات الإستراتيجية الجديدة المحتملة في نظام ما بعد أوكرانيا، ولكن أيضاً على صعيد إدارة الصراع الإستراتيجي مع الصين، التي تراقب بدورها ما يحدث في أوكرانيا بدقة بالغة، حيث يعتقد الكثير من الخبراء أن أوكرانيا وتايوان حالتان متماثلتان، وأن التدخل الغربي في الأولى سيرسم حدوداً محتملة للتدخل في الثانية في حال نشوب صراع مع الصين بشأنها، ورغم قناعتي بأن ثمة اختلافات جذرية بين الحالتين، الأوكرانية والتايوانية، فإنه لا يمكن بالمقابل إنكار التماثلات القائمة على الأقل في شقها العسكري.
الخلاصة أن انتصار روسيا عسكرياً أو إستراتيجيًا (تحقيق أهدافها رغم عدم تحقيق نصر عسكري فاصل) سيكون له تبعات هائلة على الغرب، وأوروبا تحديداً، وسيسهم في رسم خارطة سياسية جديدة لأوروبا، سواء على مستوى الأحزاب والكتل السياسية أو على مستوى تماسك الاتحاد الأوروبي ذاته، وسيؤدي إلى تآكل هائل في النفوذ والهيمنة الأمريكية بوتيرة أسرع مما يحدث في السنوات الأخيرة، ناهيك عن أن حسم الصراع لمصلحة روسيا سيقود إلى استنساخ السيناريو ذاته في مناطق أخرى من العالم، حيث يتوقع أن ينعكس الأمر على سلوكيات قوى إقليمية ودولية أخرى مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية، حيث سيزداد الميل إلى تحدي النفوذ الغربي والتوجه نحو استخدام القوة في العلاقات الدولية بشكل قاطع بالنظر إلى الانهيار المحتمل لآليات حفظ الأمن والاستقرار العالميين، والتي لا تزال باقية - ولو شكلياً - في الوقت الراهن.