د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
إعلان البيت الأبيض عن رصد بالون تجسس صيني فوق الأراضي الأمريكية خلال الأسبوع الماضي، فتح باب النقاش -بين المختصين والمهتمين بالشأن العسكري والاستخباري - حول عودة أساليب واستخدامات أدوات التجسس العتيقة في حروب التجسس الحديثة. وعلى الرغم من إصرار بكين على أن البالون كان للاستخدام المدني، ضل طريقه بالصدفة ودخل المجال الجوي الأمريكي، إلا أن واشنطن أكدت على أن البالون كان جهازاً تجسسياً أرسلته بكين لمراقبة مواقع استراتيجية في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بعد أن حلق فوق ولاية مونتانا موطن (قاعدة مالمستروم الجوية)، إحدى القواعد الثلاث الاستراتيجية التي تستضيف صوامع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ذات الرؤوس النووية.
يعود بداية استخدام البالونات البلاستيكية في أعمال المراقبة والتجسس إلى القرن التاسع عشر الميلادي حين استخدمت فرنسا البالونات لمهام المراقبة أثناء حربها مع النمسا عام 1859م، وأصبح استخدمها لاحقاً أكثر شيوعاً، وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية التي خصصت فيها البالونات لأعمال المراقبة ورصد تحركات الجيوش وإلقاء القنابل الحارقة.
في حقبة الخمسينيات الميلادية شرع الجيش الأمريكي في تطوير استخدامات البالونات ضمن برنامج عسكري طموح استخدمت فيه البالونات لأغراض الاستطلاع والتجسس على الكتلة السوفيتية آنذاك، حيث تم نقل وإطلاق المناطيد بأعداد كبيرة فوق الأراضي السوفيتية، ومن ارتفاعات عالية أجريت أعمال المسح والتصوير وسلسلة من المهام الواسعة النطاق ضمن مشروع سري يعرف بـ «Project Genetrix»، كان أحد اكتشافاته منشأة نووية سرية في سيبيريا.
على مدى العقود القليلة الماضية، زاد الاهتمام بتطوير بالونات التجسس وأصبحت تتميز بقدرات عالية على الرصد والمراقبة للأهداف عن قرب ولفترات زمنية أطول نسبياً دون تعرضها للانكشاف السريع، كما زودت بمعدات تصوير عالية التقنية والتي مكنتها من التقاط صور عالية الدقة مقارنة بمثيلاتها التي ترسل من أقمار التجسس الصناعية، وذلك لقدرتها للتحليق على علو منخفض، كما أصبح بإمكانها «جمع الإشارات الإلكترونية» واعتراض الاتصالات العسكرية ونحوه، وهي عادة ما تُترك للتنقل في الفضاء الجوي لتطفو في التيارات الهوائية وَفْقًا لأنماط الطقس المتوقعة، إلا أن البعض منها يتم تزويدها بـ «جهاز توجيه» للتحكم في مسار رحلتها.
حديثاً وخلال حرب أفغانستان استخدم الجيش الأمريكي البالونات في أعمال المراقبة حيث جهزت بكاميرات فيديو تعمل بالأشعة تحت الحمراء والملونة والمعروفة باسم (Aerostats) وذلك لتسهيل تحركات سرايا الجيش الأمريكي ورصد ثوار حركة طالبان، كما استخدمت أمريكا بالونات الهيليوم في حرب العراق أيضا لأغراض التجسس والمراقبة.
ومع ذلك كله، سيبذل مجتمع الاستخبارات والجيش الأمريكي الجهود اللازمة لاستعادة أجزاء الحطام المتناثر من البالون الصيني الذي أسقط قبالة ساحل المحيط الأطلسي، لتحليله ومعرفة تقنيات التجسس المزود بها، وكيفية عمله، وقدرته على المراقبة، واستنتاج دوافع عودة الصين لاستخدام أدوات التجسس القديمة، وهو ما قد يدعو بكين للتخلي عن استخدامها مستقبلاً.