د. محمد بن إبراهيم الملحم
التعليم الفني والمهني، وما أدارك ما التعليم الفني.. دائماً يتحدث الناس عن تقدم سنغافورة وماليزيا وبقية النمور الآسيوية التي قفزت من الفقر المدقع إلى الاقتصاد العالمي المرموق، فصيادو السمك السنغافوريون البائسون تحولوا إلى مهندسين وفنيين يديرون أكبر مصانع تكنولوجيا الحواسيب والذكاء الاصطناعي. وعندما يتحدثون عنها يشيرون إلى استثمارها في التعليم، وهذه المفردة عندما تطلق يتفكر المستمع فوراً في التعليم العام بمراحله من الروضة إلى الثانوية، وهذا جزء من الحقيقة فتلك الدول استثمرت في التعليم العام لكنما استثمارها الحقيقي والذي لا يتحدث عنه كثير من الناس هو في التعليم الفني ويكفينا في هذا الصدد التأمل في حقيقتين مهمتين: أولهما هيكلة النظام التعليمي السنغافوري مثلاً، والذي أعطى المتعلم فرصاً متعددة في مسارات التعليم الفني ليس هذا فحسب، بل جعل في مسارات التعليم الفني فرصة للتحول إلى المسار الجامعي الهندسي، كما شجعت الحكومة التعليم الفني بطرق متعددة، وما ذلك إلا لأن اجتذاب رأس المال الأجنبي لإنشاء المصانع في تلك الدول يحتاج إلى عاملين مهمين: البيئة القانونية الملائمة بكل ما فيها من حماية ومرونة، وتشجيع بالإضافة إلى اليد العاملة المتمكنة وذات التكلفة الأقل، وهو ما نجحت تلك الدول في تكوينه.
التعليم الفني لدينا يعمل منذ سنوات ولا نرى له أثراً ملموساً بقوة في المجتمع سوى ما قدمه من فنيين عملوا لدى بعض الشركات الكبرى. لا تزال هناك قطاعات مهمة تحتاج أن يعمل فيها الفني السعودي خارج تلك الشركات وهي القطاعات الخدمية المباشرة للمجتمع مثل أعمال التبريد والتكييف والبناء والإنشاء والإلكترونيات والكهرباء وما إليها من الأعمال، وهذه لا تحتاج إلى مناهج ومعاهد وتدريب فقط وإنما تحتاج أيضاً إلى خطط وكيانات يعمل من خلالها أبناؤنا الفنيون السعوديون ليحلوا محل العمالة الخارجية غير المدربة، وأعتقد أنه ينبغي أن توجد خطة وطنية لهذا الأمر، وتكلف به جهة أو أكثر من ذوات الاختصاص لترعى مثل هذا التوجه، وعندها لا بد للتعليم الفني والمهني أن يقدم إطار عمل متميز لتخريج فنيين ذوي كفاءة متميزة لا تقوم كفاءتهم على الدراسة النظرية والعملية فقط، وإنما تغذى بإطار تطبيقي تدريبي حقيقي ترعاه الجهة التعليمية في تنسيق متناغم مع الكيانات التي سوف تنشئها الدولة لتلك الخدمات، فلا يلتحق الفني بالعمل إلا بعد أن تكون تمت تجربته وهو طالب، كما أنه هو عايش بيئة العمل وفهم متطلباتها فيكون انضمامه منتجاً منذ اليوم الأول هذا الأسلوب من التدريب يسمى التدريب الانغماسي، وهو يحتاج إلى كثير من التنسيق والتهيئة مع بيئة العمل التي سيلتحق بها المتدربون ليتقنوا مهارات العمل، ويتعودوا على بيئته قبل أن يعودوا مرة أخرى لإكمال الدراسة، حيث تكون لهم جولات مع مدربيهم في مناقشة ما شاهدوه وعايشوه في بيئة العمل، وهذه الجهود لها قيمتها ومردودها المهم، حيث سيمثل ذلك انعكاساً على الجانب النظري الذي تعلموه في المؤسسة التدريبية (مركز أو معهد التدريب)، وبهذه الطريقة ستصقل الخبرة مبكراً، مما يقدم تسريعاً للاستثمار في هذه الطاقات الوطنية.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً