نوف بنت عبدالله الحسين
عام 1985، وفي عمر الخمس السنوات، كنت أفقه وأعي معنى أغنية (يا طفلة تحت المطر)، ترتحل بي ذاكرتي إلى رحلة ابتعاث والدي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في مدينة سبوكان جامعة قونزاقا، تتشكّل أمامي سيارة البيوك، وهطول الثلج، وصوت طلال في أشرطة (الكادريج) و(الكاسيت) هذا الإدراك المبكر لوجود عنصر سعادة في التفاصيل اليومية، خلق لدي شعورا بالفرح كلما هب صوت الأرض على مسامعي.
عام 1993 في مصر الحبيبة، كانت إعلانات حفلات طلال مداح في شوارع القاهرة تجوب الأماكن، وبالرغم من أنني في عمر الثلاث عشرة عامًا إلا أنني نشأت في بيت محب لهذا العملاق وفنه، وكنت أحدّث نفسي، هل سأحضر حفلا له في يوم من الأيام؟ هل سيكون هذا الحفل أسطوريًّا يليق به وبجمال ما يقدمه من إبداع، وأنا التي شذبت مسامعي ونقيت وجداني بصوته العذب وبالراء الطلالية الطربية، فعشت أيامي ألاحق صوته ما بين مذياع وشريط كاسيت وحفلة مسجلة ونغم يتسلل في لحظاتي كل حين، نشأت على حب صوته، وتشكّل في ذاكرتي ووجداني أجمل ما يكون كذائقة عذبة الإحساس تتجاوز كوامن الإبداع إلى أبعد مدى، حب ورثته وورّثته، وأؤمن بأنه الحب الذي بث في داخلي القيم الإنسانية العميقة، والمعاني الأصيلة للشعور، فعلاقتي مع صوت(طلال مداح) علاقة استثنائية، ففي صوت طلال أجد مراحل العمر التي ارتبطت به صوتًا عميقًا يترجم ما بداخلي من شعور ويفسر اللحظة الأمثل في كل حين، وفي الكثير من محطات ومنعطفات حياتي كان هو ومازال الحاضر الأول في المشهد، فـ(ماذا أقول وقد همت فيك) يا (صوت الأرض)، فطلال هو(نقطة الضعف اللي في... قلبي يتحمل أسيّه)، ومن خلال صوته نمت ثقافتي، تعرفت على الشعر العربي من خلال مواويله الحجازية، فهمت الفرق ما بين المجس والمزمار والمجرور، ووجدت بعضًا من فن السامري والبخيتي، تعرفت على مقام النهاوند والصبا، وصعدت عبر صوته للسلم الموسيقي صولا، وانبهرت من مدى إتقانه للقرار والجواب، لكن أكثر شيء حيّرني فيه هو (الرّاء) الطلالية العذبة في (مرمر زماني) و(مرت) و(ليلة تمرّين) و(وردك يازارع الورد) والقائمة تطول...
عام 1999م، شارك صوت الأرض في مسرح (المفتاحة)-مسرح طلال مداح حاليا- ونقلت الحفلة على الهواء في المذياع، كانت أيامها ليال صيفية، وأتذكر أنني سجلت الحفل على أشرطة الكاسيت أنا ووالدي، كانت ليلة طربية بامتياز، أعاد غناء الكثير من الأغاني الجميلة، من أبرزها أغنية (أنادي) كلمات محمد العبدالله الفيصل وألحان سراج عمر، ثم تم عرضها مسجلة بعد أسبوع على ما أظن في قناة الـ أم بي سي.
وفي عام 2000م شهر أغسطس يوم 11، تحمست كثيرًا لمشاهدة الحفل الذي سينقل مباشرة على القناة الأولى وقناة الـ ام بي سي، وبعد وصلة عبادي الجوهر، دخل طلال المسرح في مشهد عجيب وتصفيق حام من جمهور ملأ المسرح وصفق طويلا، ولحفظ ذكرى هذه الحفلة، قمت بتجهيز شريط فيديو لتسجيلها، غنى طلال الموال كأحلى ما يكون، ثم غنى الكوبليه الأول من الله يرد خطاك، وبعدها سقط في مشهد مذهل وصعب أمام كل محبيه، رسخت الصورة الذهنية في عقلي، وفقدت حينها مصدر السلوى الوحيد في ذلك الوقت، ليصبح (مصدر أحزاني) عنواناً لهذه المرحلة القاسية، ولكنها مشيئة الله ولا اعتراض.
ومنذ تلك اللحظة عرفت أن طلال لم يغب، فقد كان حاضرًا بإرثه الإنساني والثقافي والفني، لكن ككل الطلاليين عانيت وتعبت من هذا الفقد، فتعمقت أكثر في تفاصيل طلال، فمن هو طلال؟ وما هي فلسفته؟ وأين تكمن عبقريته الفنية؟ وكيف وصل؟ ولماذا يترجم ما أشعر به إلى هذه الدرجة؟ كيف يؤدي هذا الموال بهذه الروعة؟ لأجدني أجد الإجابات في مكتبته الموسيقية من خلال ذاكرتي الأولى، إلى آخر مرة التقت به ذاكرتي! لذا لا يمكن أن أتخلى عن هذا المخزون الذي تكوّن لدي مبكرًا، فكنت أعود إليه كل حين، وألجأ إليه في أصعب الأوقات، وأطرب معه في أجمل اللحظات، فتشكلت أغنياته لي حياة في زمن حارب الحياة، فكان طلال هو البصيص الذي أحيا به بعيدًا، حتى لا أفقد المعاني الجميلة التي في وقت (عز الكلام) فيه، و(ضاع الهوى بسكات)! حملت هذا الإرث معي، لأمرره لأبنائي منذ طفولتهم، فعاشوا في بيت محب له، وعرفوا نقطة ضعفي ومصدر سلوتي وأنسي، فطلال هو جزء من ذكرياتي مع أبنائي، فحين تأتي سيرة طلال أتحوّل إلى (الحبيب المطاوع)، وفي ليالي السمر و»شبة» الحطب وفناجيل القهوة واكتمال القمرنصبح عشاقًا ونغني لبعضنا (عشقت الليل)، وأختي ندى أسميتها (أخت القمر)، وترسل لي أمي ما بين فترة وأخرى مقاطع صغيرة لأغنيات طلالية تشاركني إياها لعلمها ويقينها بأن طلال هو امتداد حب يظلل أسرتي، ويمطرعلينا دومًا (تغاريد وألحان).
ثم...
أتت ليلة الوفاء 1-2-2023م ترددت كثيرًا، هل أحضر الحفل؟ أم أكتفي بالمشاهدة من القنوات الفضائية؟ فردت لولوة بنتي وقالت: ياماما، كنتِ تتمنين حضور حفلة طلال في مصر، جت حفلة لطلال في الرياض، فحجزت مقعدين لي ولها، وارتديت أجمل ما يمكن ارتداؤه في ليلة استثنائية حالمة، ونحن في الطريق رأيت (وطني الحبيب) يحتفي بهذا الكيان العظيم، تنظر للسماء فترى ابتسامته ملوّحة من خلال انعكاس صورته التي غطت سماء الرياض، وصلنا لمكان الحفل، دخلت المسرح مذهولة بالتنظيم والتنسيق، كل شيء حولي طلالي، الديكور، الصور، الإضاءات، وكل ما حولي يبث طاقة جميلة، أن أحضر حفلا فيه من صفوة المبدعين من أصحاب السمو والمعالي، وأهل الفكر والثقافة والفن، وأسرته الكريمة، ومحبيه، ولفيف من جمهور عريض، ثم تبدأ رحلة الجمال، ففي ليلة عذبة جدًا، أتاحت لي الفرصة أن أعيش ليلة حالمة وأنا في الثالثة والأربعين، أعادت لي شريط ذكريات طويلة، مع كل أغنية، فذاكرتي التي اختزلت الأغنية واللحن والمعنى، وعذوبة الموسيقى واللحن، فكانت البداية حسين النجار المذيع المخضرم صاحب الصوت الإذاعي الفخم، يستفتح هذا الحفل بقصص جمعته بالراحل وبأسلوب لافت أسر الحاضرين في ليلة الوفاء، ثم بدأ الحفل بقيادة المايسترو عماد عاشور غنوا باقة من الأغنيات (أغراب) يقدمها المبدع عبدالرحمن الحسن و(ماتقول نا صاحب) يقدمها مساعد البلوشي و(سلم الطائرة) يقدمها جابر الكاسر و(ضحكت لي) بصوت عايض و(أحرجتني) أداها وليد الشامي بعد مقدمة الكورال (جتني تقول) و(عطني المحبة) بصوت عبود خواجة ثم قاد المايسترو أغنية (مرّت) يقدمها الكبيسي وفؤاد عبدالواحد، ولسان حالي يقول (الله يامبدل الأحوال)، ثم بقيادة المايسترو أميرعبدالمجيد، وأغنية (وردك يا زارع الورد) أداها العملاقان هاني شاكر ووليد توفيق، وأديا أداء (يفرح المشتاق وهديه للعشاق)، ليأتي (صعب السؤال) بعزف منفردا يؤديه مطرف المطرف، وكانت (فوق الخيال)، مع أنغام لتغني (رسالة حب) فكانت (قصيدة شعر تحكي لك) عن ليلة حالمة بكل المقاييس، ويأتي بعدها الميدلي العذب النساء (أنا راجع أشوفك) وعذوبة صوت أسماء المنور، وتنتقل بنا بلقيس بـ(دالي حصل من بعد)، وصدحت داليا بـ(اليوم يمكن تقولي) ثم تطربنا وعد بـ(ياسارية خبريني)، ثم تأخذنا يصورتها العذب زينة عماد بأغنية (كلما دقيت بأرض وتد)، وتأتي أصيل الهميم بأغنية (لو حبت النجمة نهر) وتختم الميدلي أمية بـ(لالا يا الخيزرانة)، ثم (زمان الصمت) بأداء راشد الفارس وطلال سلامة، وقد أبدعا وأبكونا قليلاً، ليأتي بعدهما الفنان علي عبدالكريم و الفنان د.عبدالله رشاد، ويشدوان بأغنية (مقادير) فكنا (على ميعاد حنا والفرح كنا) وتأتي نجوى كرم وصابر الرباعي، ليغنيا (مادام معايا القمر) بحضور جاذب، ثم يأتي صاحب الابتسامة الجميلة عبدالله الرويشد ليشدو بأغنية (سويعات الأصيل) فكانت (دواءً للعليل)، ليأتي أخطبوط العود الوفي صاحب الإحساس الصادق رفيق درب طلال وحبيبه ورفقة عمره وشاهد على تاريخ إبداعه(عبادي الجوهر) ليعزف بعود طلال ويشدو بأغنية (ماذا أقول) رائعة طلال مداح كلمات فتى الشاطئ وألحان د.محمد عبدالوهاب، ثم غنى رائعة طلال (ياموقد النار) وهي من الكلاسيكيات المنسية لصوت الأرض بموسيقة حديثة وإحساس طغى على مسامعنا ومشاعرنا، ثم يأتي الإعلامي المعروف علي داود، ومعه لفيف من الرياضيين المخضرمين، الكابتن محمد الدعيع والكابتن ماجد عبدالله والكابتن صالح النعيمة والكابتن أحمد جميل ليشاركوا الحاضرين ذكرياتهم مع صوت الأرض، بحضور شبيه طلال مداح فكانت لحظة مؤثرة وسريالية، وقعنا في سحر الحلم وكأنه موجود بيننا (وياناس الأخضر لا لعب، بركان يفجر غضب)، ثم يأتي كبار الإعلاميين المبدعين (يوسف جاسم) و(نشوى الرويني) وبعد الكلام الجميل الذي ذكروه عن طلال، أعلنا عن لحظة تكريم صوت الأرض، ليكرم معالي المستشار تركي آل الشيخ أسرته ونراهم على خشبة المسرح يصافحهم ويسلمهم الجائزة، ويأتي الإعلان الأجمل، عن تسمية أكبر استوديو موسيقي في الشرق الأوسط باسم صوت الأرض من (ندى التويجري)، وما أجمله من إنصاف وتكريم، فكان تكريمًا لكل الطلاليين المحبين، ثم تقدم السفير المصري أحمد فاروق توفيق ليكرم عائلة الفنان طلال مداح، في مشهد مهيب ومؤثر، وهنا قلت في نفسي: ياليتك معنا ياطلال تشوف كل هالحب والتقدير لشخصكم وفنكم وعطائكم، ثم تأتي أغنية (الله الأول وعزك يالوطن ثاني) وهي الأغنية السعودية التي غناها طلال في الجنادرية مصاحبة معه الرقصات الشعبية، ليعيد غناءها عبدالمجيد عبدالله وماجد المهندس، ويأتوا الراقصين بمشهد مدهش أعاد للأذهان تلك الحفلة المنقولة، (لأهل الجزيرة سلام وللملك طاعة)، وهذه الأغنية كانت قبل فكرة الأوبريتات في الجنادرية فكانت الشرارة الجميلة من كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن، فعاش وطني الحبيب مقر الحضارة والإبداع- وحفظ الل- قيادته الرشيدة، لطالما كرم المبدعين وأتاح لهم كل سبل وجالات الإبداع، (منذ الطفولة قد عشقت ربوع وطني الحبيب وهل أحب سواه) وطني الذي أتاح لي الفرصة أن أعيش حلم الطفولة كأجمل ما يكون، ومع هذا الحفل تجد متحفًا مصاحبًا لمقتنيات الراحل، أعواده التي عزف عليها، ووسام الاستحقاق الذي ناله من الملك فهد -رحمه الله-، واللقاءات الصحفية، وتاريخه الإبداعي، هل انتهى الحفل؟ لا مازال للجمال بقية، ليطربنا عبدالوهاب الدوكالي بأغنية كان يامكان وهي أغنية مغربية للدوكالي كان يحبها الراحل كثيرًا، عيشنا في ذائقة طلال وجعلنا نكتشف جانبا من الفن المغربي البديع، لتأتي الديفا (سميرة سعيد) وكيف لا وهي التي لها مع طلال تاريخ فني جميل، وأبدعت في تقديم أغنية (تصدق ولا أحلف لك)، ليأتي أحمد فتحي بصحبة خالد عبدالرحمن يشدوان بأغنية (أحبك لو تكون هاجر) كلمات لطفي زين، وأكيد الحاضرين مستمتعين بهذه اللحظة و(راح أمشي معاك للآخر)، ثم أتى أصيل أبو بكر وعلي بن محمد ليشدوان بأغنية (دا اللي حصل) وهذه الأغنية لها تاريخ جميل تخبرنا عن مدى عمق صداقة أبو بكر سالم وطلال مداح (يكفي معي طيفك بعيني عم والحب له مغنى)، وتأتي أصالة وتطربنا أكثر بأغنية (أجاذبك الهوى واطرب واغني) في فقرة طربية مدهشة، وأنا يا طلال (بك مغرم جاك متعني) في هذه الليلة، ويأتي بعدها النبيل نبيل شعيل، و(حط النقط فوق الحروف) وأغنية جميلة من أغاني طلال، وقد غنى نبيل في السابق أغنية بنفس اللحن اسمها (أية نقط وأيه حروف) وتناغم مدهش، فضجّ المسرح معها تصفيقًا وطربًا، ثم أقبلت الجميلة نوال، لتغني أغنية (ابتعد عني) كلمات الأمير عبدالله الفيصل، لتعيد لأذهاننا الأغنية المليئة بالكبرياء والفخامة، ويعود ماجد المهندس بأغنية (عشقت الليل) كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن، وأجاد في غنائها، فكانت (ياليل الحب يا غالي ياجامعنا واحنا بعيد، تلطف حمل النسمة بهمسة تمر فوق الجيد)، وأقبلت بعدها الملكة أحلام، لتطربنا بـ(سيدي قم)، وهنا لاحت بي الذاكرة (يا جريح البارحة.. كيف طبت اليوم؟)، ليأتي بعدها سندباد الخليج ويشدو بالرائعة (من هو حبيبك) وأعادنا إلى أيام هذه الأغنية بإحيائه لها، ثم أقبل رابح صقر، وشربك الحفل شربكة جميلة حين غنى (اليوم يمكن تقولي)، ثم أتى رفيق الدرب فنان العرب، ليعيد أغنية (ليلة تمرين) و(يا غيرة الورد جرحها الكلام، حبيبتي ليه عاتبها الظلام)، وغناها بكل جمالإبداع.
هل انتهى الحفل؟ ليس بعد، لا بد من إعادة مشهد مولد أمة، (والدقلة الزرقاء) التي ارتداها محمد عبده، والآن يشاركه طلال أمامنا بتقنية الهيلوغرام، وكانت مسك الختام، بعد لوّح طلال هل حقًا انقضت خمس ساعات؟ يالها من ليلة استثنائية تليق بالراحل، شكرًا لوطني الحبيب، شكراً لملكنا سلمان، شكراً معالي المستشار تركي آل الشيخ، فقد حققتم لي الحلم، لعلي في يوم أحكيها لأحفادي.