د. محمد بن عويض الفايدي
يختفي محددا الزمان والمكان، وتتداخل أدوات القياس في هذا المشهد، ففاعلية القيادة تُقاس بمدى تلبيتها لحاجات ومتطلبات الأمم والشعوب وانسجامها مع تطلعاتهم، ومدى مواكبتها للتحضر والتطور المجتمعي وملامستها لآماله ومنهج فكره وأدوات تفكيره، في تصور بأنها علاقة تبادلية معقَّدة وديناميكية بين القائد والأتباع الذين يؤدون أدوارا تكاملية فيما بينهم، وفيما بينهم وبين البيئة المحيطة بهم لتحقيق الأهداف المنشودة. وفاعلية البيئة التقنية تعتمد على قدرتها في امتلاك جديد التكنولوجيا، وتطوير وتحديث برامجها وبرمجياتها باستمرار، والسير خلف جديدها وعدم الركون أو التوقف عند حد معين لمعطياتها المتجددة.
في ظل هذه المعطيات التقنية أصبحت العملية القيادية تُسلم بالدور الفاعل والجوهري للتقنية في توفير الوقت والجهد والمال لصناعة واتخاذ وتنفيذ القرارات ونقل التوجيهات، وفي التواصل والاتصال وتبادل المعلومات بين مختلف مستويات العملية القيادية والإدارية. وليس ذلك فحسب بل باستمرارية وسهولة التواصل وتبادل المعلومات في نفس اللحظة بين القادة والأتباع، مع إمكانية وصول التغذية الراجعة إلى القادة بقدر عال من السرعة والانسيابية والتتابع مهما كبر أو صغر حجم المنظمات والكيانات. واحتوائها لطبيعة تنظيمية مذهلة للحجم الضخم من البيانات والمعلومات وإعادة قرأتها بطرق مختلفة وتحليلها أيضًا ببرامج متعددة وبأساليب متدرجة وتراكمية.
إمكانات تحليل المعلومات ميزة تنافسية تقودها برامج التقنية الحديثة بنظم وبرامج وقواعد تقنية عالية الطاقة والبدائل. مما جعل قواعد البيانات والمعلومات التقنية سمة تُميز العصر الحاضر، وترسم ملامح للسيادة وصراع الإرادات تختلف عن كل العصور وعلى مر الحضارات البشرية.
تمتع القادة والعاملين بدرجة عالية من المعرفة والخبرة والدراية باستخدام وإدارة الأجهزة التقنية كالحاسبات الآلية والشبكات وبرامجها العالمية، ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة تؤصل لمفهوم «التقنقيادية» أي القيادة والإدارة بالتقنية، والذي بدوره يؤسس لمقدرة القادة على توظيف التقنية في القيادة والإدارة بكل أنواعها الإدارة العامة، وإدارة الأعمال، والإدارة غير الربحية. وأيضًا في كل مجالات الإدارة كإدارة الذات، والوقت، والتغيير والتطوير، واجتماعات وضغوط وخلافات وإخفاقات العمل. وكل ذلك يُدار في فضاء سيبراني واسع إمكاناته لا نهائية، ولا تُدركه الأبصار ويصعب السيطرة عليه والتحكم في حركته.
الفضاء السيبراني تلك المساحة الكونية الشاسعة التي تعم الكرة الأرضية وفضاءها الخارجي، والتي تُعد ساحة عالمية مفتوحة يجول فيها الأداء التكنولوجي بكل أبعاده ومعطياته الإيجابية والسلبية. في معطى يتعدى حدود السيطرة والتحكم فيما بين أسياد وملاك التقنية من طرف وبين المتطفلين عليها ومن يستغلها لأهداف نفعية أو مسيئة ومدمرة من طرف آخر، في صراع معلن ومبطن وتحد يتلوه تحد مستمر قد لا يتوقف بين مصممي برامج التقنية ومؤمنيها ومخترقيها أو مدمريها في بعض الأحيان، مما يرسم ملامح فضاء سيبراني معاركه قد لا تهدأ أو تفتر أبدًا، ضمن مشاهد الحروب الكلامية والصراعات النفسية والابتزازات الاقتصادية والمالية، والانتهازات السياسة والعسكرية، والتهديدات الأمنية التي أحد صورها الإرهاب الإلكتروني الذي تحركه أصابع خفية قد لا يستبعد أنها من أسياد التكنولوجيا وملاك التقنية ذاتها في مشاهد دولية وممارسات تنظيمية تعبر الآفاق وتتخطى الحدود بعبور سافر لا يحتشم من قانون ولا يراعي نظم حدود وضوابط عبور ليصل إلى أعماق بنوك المعلومات وقواعد البيانات وينسفها من جذورها في تهديد واضح لأمن دول وانتهاك لخصوصية مجتمعات تحت ستار بناء معقد يستتر فيه الفاعل والضحية ويغيب فيه الخصوم عن التقاضي ويُصعب فيه جمع الاستدلالات وإجراءات الترافع والتقاضي، ويستحيل فيه ضبط الدليل المادي وحفظه ونقله وتقديمه للمحاكم وأمام القضاء. وكذلك الحصول على القرينة وتدعيمها بالأسانيد المحققة للإثبات أو النفي، مع عدم وجود محاكم قضائية مختصة بالنظر في جرائم التقنية وإرهاب التكنولوجيا. أمام مشهد في غاية التعقيد والتشابك بين المنفعة والضرر واللذة والألم لأبعاد ومعطيات وإيجابيات ومخاطر وسلبيات التقنية التي تتزايد وتتعاظم. ولكن بناءً عليه ما الذي ينبغي؟
يُفترض على صناع القرارات التقنية وواضعي القوانين الضامنة لأمن الفضاء السيبراني أن تُدرك طبيعة الفضاء السيبراني العالمية، وديناميكية التكنولوجيا. وبالتالي الأخذ في الاعتبار أن الإطار القانوني لا بد وأن يستجب لطبيعة التقنية وفي الوقت ذاته للنزعة العالمية السيبرانية التي لا تتجزأ أو تنفصل حلقاتها عبر الحدود وبين الثقافات. والتعامل معها ككتلة تخضع للمراجعة والتطور بصورة مستمرة في تناغم متصل مع النزعة العالمية والسيادة الوطنية للدول. بحيث تتشكل مصادر هذا الإطار القانوني من اتفاقيات ومعاهدات دولية وإقليمية متعددة الأطراف، تُحدد بموجبها حقوق الدول وآليات التعامل والتعاون بينها، ومجالاته على أن يتم تعديلها وتطويرها بشكل مستمر لتنسجم مع المتغيرات والمستجدات والإرشادات والتوصيات الصادرة عن الهيئات والمنظمات الدولية المُتخصصة والمتصلة بهذا المجال.
البيئة التنفيذية للتشريعات الخاصة بالفضاء السيبراني يشوبها تحديات ضخمة على مستوى العالم المتقدم مُنتج ومُصدر التقنية، لكنها على مستوى البلدان النامية أكثر تحديًا، كنتيجة حتمية لتقاعس الجهات المعنية بهذا الفضاء العالمي عن ضبط قواعد استخداماته المختلفة، وعدم قدرتها على طرح الأسس والقواعد اللازمة لسن التشريعات، وإصدار اللوائح والتوجيهات التنفيذية اللازمة لذلك. في ظل ممارسة قيادية مترددة وثقافة إدارية تتسم اجراءاتها بالبطء، وتطبيق قواعد إدارية بالية لم تُحدث قوانينها تحت ستار بيروقراطية عمياء في سلسلة طويلة من الإجراءات التي تُحيل إصدار التراخيص ومتطلبات الممارسة التقنية إلى وزارات وهيئات غير مختصة، أوتطالب بالتسجيل في إدارات إشراف متعددة، أو تُسند صلاحية إعطاء الإذن إلى جهات غير متخصصة. كل ذلك ضمن نمط قيادي تقليدي في قوالب جامدة لا تواكب سرعة التحولات التكنولوجية المذهلة.
التقنية بكل أبعادها ومعطياتها قد تكون المدخل الأحادي لتوحيد العالم لأن الخلافات والنزاعات البدائية كانت تحسمها الأدوات المتاحة كالعصا والحجارة والسيف والفأس التي قد تؤدي إلى كسر العظام التي يمكن جبرها وبُرؤها، لكن التقنية ببرامجها وإمكاناتها الضخمة غيرت هذا المفهوم وكسرت حواجز الحدود وأصبحت تُطلق التهديدات المدمرة لقواعد بيانات ومعلومات دول بأسرها وكيانات، وتنقل العبارات القاسية القاتلة عبر ملايين الأميال، ضمن سناريوهات ومشاهد تُثير خلافات ونزاعات تتعدى كسر العظام الممكن جبرها إلى صور مؤذية توقف الأنشطة وتُعطل المصالح والمرافق، وتأسر الفكر وتُسيطر على التفكير وتُدمر تقدير الذات وتؤدي إلى العزلة والتنحي عن الأصدقاء وسائر الأنشطة الاجتماعية، وفي النهاية تقود إلى محاولة الانتحار أو الانتحار الذي يُمهد له تمدد الإجرام التقني والإرهاب الإلكتروني بطرق يصعب السيطرة عليها، مالم يتجه العالم وبشكل جاد نحو التعاون لبناء استراتيجية عالمية سيبرانية تتحدد فيها المفاهيم وتتكامل في إطارها التشريعات بما يضمن وضوح الاختصاص القضائي، وتتوحد في سياقها معطيات سن القوانيين، ويُعوض من خلالها نقص الخبرات الفنية لتحديد أركان الجريمة الإلكترونية لتقديمها أمام المحاكم والكيانات العدلية في كل دول العالم.
** **
خبير الفكر الاستراتيجي - رئيس منتدى المعرفة العربية