«نساء خوالد» ديوان نثريّ سطرته أناملٌ عازفٍ على أنغام الوجدان، قصيرة عباراته، لكنها كالعشب الذي مد ظلاله فوقي، فصرت ما بين حسّ ينبض بالفقد، ويتلذذ بالبعد، ويتغنى بالألم، ويتبادر اللذة، فهو سفر وجداني فاتن الوصف والتعبير، انتظمت فيه الكلمات انتظامًا موسيقيًا صاغته أنامل الدكتور خالد الخضري، وفي سطور الكتاب قدّم ذاته من منظور يحلق في أفلاك البيان وفضاءات البلاغة، فبدا لي تارة متسائلاً بعمق: «هل حان الوقت أن أعيدك إلى دنيا عشقنا، أم أن الوقت قد مضى، وأغلق الرحيل بوابات الكلام، وتاهت ذاكرتي، وقيدتني شكوك في شكوى الظنون..؟»، فيرمز من خلال هذا التساؤل إلى الاستفهامات الوجودية التي لم توجد ليجاب عليها وإنما تبقى معبرِّة حتى مع انتهاء النص على علامة الاستفهام.
في مراحل من رحلته، انثال يعبِّر عن فلسفة الانتظار، وانعدام الشعور بالزمن في سبيل الوصال الذي طال عنه المنال، فيرى تجليات هذه الصورة في الغيمة العابرة التي تعد بالمطر، ويربط بين الصور الجمالية والمشاعر الإنسانية في ذلك، فالغيمة الحالمة في نصه هي رمزية تذكره بإطلالة من يفيض لها شوقًا، ليقول عنها: «أفتقد إطلالتك، عندما يمر طيفك أمام عينيّ في يومٍ غائم»، وكأن الجمال الخارجي يستثيره لاستحضاره مصدر الإلهام والجمال في مخيلته التي تترابط فيها الجماليات كنسيج ينادي بعضه على بعض.
أما عن الحب، وفلسفة الجذب، فقد كشف كل تلك الحوارات التي تدور في غياب الحبيب بين ذاتٍ نحبّها، وذات ننتمي إليها فنسمو إليها، لدرجة أن نجعل كل الألم على حساب ذواتنا مبررًا مستحقًا، فنداوي النوى بالأمل، ليكون التعبير الأمثل هو كما قال: «أحبك، ربما تجد أرواحنا الوقت؛ لحياة كنّا جديرين بها»، ففي عين المؤمنين يولد الأمل ويتغذى دون وجود الإشارات الظاهرة ودون الاعتماد عليها.
وحتى حين يجفو النوم من يجفوه، لا شك أن شعور الجفوة يذكي جفوة الخيال للواقع، والحلم للحقيقة، حتى تصبح المترادفات متقاربة، فيعد المبرر المنطقي هو ذاته العاطفي، ويعبِّر عن ذلك بقوله: «في صراع مريرٍ مع النوم، تتجلى في الأحلام كطائر حزين، يتوسط الأمل بأن يبقى محلقًا» والتحليق في ارتسامه الختامي هنا يرمز إلى التحرر من قيود المنطق والعقل، والتماهي فوق الاحتمالات التي تفرضها.
أما عن حكاية الأفول، ورغم أن الإنسان عادة، يفقد قدسية الإعجاب بحجة الغياب، أسوة بالخليل إبراهيم حينما تحول الإله إلى ظاهرة كونية لا يكترث إليها، لأن الأفول من علامات النقص في الكمال، لكنه فيمن يحب يعدّ مدعاةً للمناجاة والتغنّي، فترسو عبارته العالقة في رصيف العابرين: «كل الكلام معاد، كل الحكايا مكررة، سوى حكايتك الأسطورة، القابعة في الذاكرة».
هنيئًا لها؛ فتاة «المنيكان» التي يغرن منها، وهنيئًا له؛ بمنظور يعيد صياغة الأوجاع ليترجم فنّاً أدبيًا خالدًا.
** **
- عبد الله الصليح