حمّاد بن حامد السالمي
* نأتي اليوم إلى الجزء الثاني من قصيدة (الإمام ابن حزم- علي بن أحمد الأندلسي القرطبي 384هـ - 456هـ)، التي جاءت ردًّا على الإمبراطور (نقفور فوقاس طاغية الروم، الذي قُتل مذبوحًا سنة 359هـ)، وتفنيدًا لما ورد في قصيدته الموصوفة برسالة إلى (الخليفة العباسي المطيع في خلافته 343هـ- 362هـ)، وجاءت على شكل قصيدة شعرية بالعربية الموضوعة له من خائن رغالي يتكلم العربية، وكلها تهديد ووعيد وهزوء وسخرية غير مسبوقة، وكنا أتينا على ذكرها في حلقات هذا المقال السابقة.
* قصيدة ابن حزم؛ جاءت بعد أربعة أو خمسة عقود على رحيل نقفور؛ لكنها تحمل نفسًا دينيًّا وقوميًّا كأنها معاصرة للطاغية وقصيدته الملعونة. ها هو في الأبيات التالية؛ يستخدم لغة التهديد والوعيد ذاتها التي استخدمها نقفور فيقول:
سيأتيكمُ منهم قريبًا عصائبُ
تنسيكمُ تذكار أخذ العواصم
وأموالكم حل لهم ودماؤكم
بها يشتفي حرّ الصدود الحوايم
وأرضيكم حقًا سيقتسمونها
كما فعلوا دهرًا بعدل المقاسم
ولو طرقتكمُ من خراسان عصبة
وشيراز والريّ القلاع القوائم
لما كان منكم عند ذلك غيرُ ما
عهدنا لكم ذلٌّ وعضّ الأباهم
فقد طالما زاروكمُ في دياركم
مسيرة عام بالخيول الصوادم
فأما سجستان وكرمان والأولَى
بكابل حلّوا في بلاد البراهم
فمغزاهمُ في الهند لا يعرفونكم
بغير أحاديث لذكر التهازم
وفي فارس والسوس جمع عرمرم
وفي اصبهان كل أروع عارم
فلو قد أتاكم جمعهم لغدوتمُ
فرائس كالآساد فوق البهائم
وبالبصرة الغراء والكوفة التي
سمت وبأدنى واسطٍ والكظائم
جموع تسامى الرمل عدًّا وكثرة
فما أحد ينوي لقاهمُ بسالم
* ثم يأتي إلى مكة؛ حيث الكعبة المشرفة، وبيت الله المعظم، ذلك أن الله حاميها قبل البشر، ويضرب له مثلًا بقصة عام الفيل. يقول ابن حزم:
ومن دون بيت الله في مكة التي
حباها بمجد للثريّا مزاحم
محل جميع الأرض منها تيقنًا
محلة سفل الخف من فص خاتم
دفاع من الرحمن عنها يحفها
فما هو عنها رد طرف برائم
بها وقع الأحبوش هلكى وفيلهم
بحصباء طير من ذرى الجو حائم
وجمع كجمع البحر ماضٍ عرمرم
حمى بنية البطحاء ذات المحارم
ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة
جموعٌ كمسودٍّ من الليل فاحم
يقودهم جيش الملائكة العُلى
دفاعًا ودفعًا عن مصلٍّ وصائم
فلو قد لقيناكم لعدتم رمائمًا
كما فرّق الإعصار عظم البهائم
وباليمن الممنوع فتيان غارة
إذا ما لقوكم كنتم كالمطاعم
وفي جانبي أرض اليمامة عصبة
مغاورُ أمجادٌ طوال البراجم
ستفنيكم والقرمطييّن دولة
تقووا بميمون النقيبة حازم
خليفة حق ينصر الدين حكمه
ولا يتقي في الله لومة لائم
إلى ولد العباس تنمى جدوده
بفخر عميم مزبد الموج فاعم
ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم
فاهلًا بماضٍ منهمُ وبقادم
محلهمُ في مسجد القدس أو لدى
منازل بغداد محل الأكارم
وإن كان من عُليا عديّ وتيمها
ومن أسدٍ أهل الصلاح الخُضارم
فأهلًا وسهلًا ثم نعمى ومرحبا
بهم من خيارٍ سالفين أقادم
همُ نصروا الإسلام نصرًا مؤزرًا
وهمُ فتحوا البلدان فتح المُراغم
رويدًا.. فوعد الله بالصدق وارد
بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم
* وهنا يتهدد نقفور المقبور -لعنه الله- بفتح عاصمته القسطنطينية ويقول:
سنفتح قسطنطينية وذواتها
ونجعلكم قوت النسور القشاعم
ونفتح أرض الصين والهند عنوة
بجيش لأرض الترك والخزر حاطم
ونملك أقصى أرضكم وبلادكم
ونلزمكم ذل الجِزى والمغارم
مواعيد للرحمن فينا صحيحة
وليست كآمال العقول السواقم
إلى أن ترى الإسلام قد عم حكمه
جميع الأراضي بالجيوش الصوارم
* وبعد أن تعم فتوح المسلمين عموم الأرض شرقًا ومغربًا؛ فهناك فارق كبير بين دين التثليث بملة الإسلام الحنيف، التي دخلتها جموع القبائل العربية بيقين واقتناع. يقول:
أتقرن يا مخذول دينا مثلِّثًا
بعيدًا عن المعقول بادي المآثم
تدين لمخلوق يدين لغيره
فيا لك سحقًا ليس يخفى لعالم
أناجيلكم مصنوعة قد تشابهت
كلام الأولى فيها أتوا بالعظائم
وعودُ صليب ما تزالون سجدًا
له يا عقول الهاملات السوائم
تدينون تضلالًا بصلب إلهكم
بأيدي يهودٍ أرذلين ألائم
إلى ملة الإسلام توحيد ربنا
فما دين ذي دين لها بمقاوم
وصدق رسالات الذي جاء بالهدى
محمدٍ الآتي برفع المظالم
وأذعنت الأملاك طوعًا لدينه
ببرهان صدقٍ ظاهر في المواسم
كما دان في صنعاء مالك دولة
وأهل عُمان حيث رهط الجهاضم
وسائر أملاك اليمانين أسلموا
ومن بلد البحرين قوم اللهازم
أجابوا لدين الله لا من مخافة
ولا رغبة يحظى بها كفُّ عادم
فحلوا عرى التيجان طوعًا ورغبة
لحق يقينٍ بالبراهين ناجم
* ويأتي إلى ذكر الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تبعه المسلمون وناصروه عن اقتناع لا خوف ولا رغبة. قال:
وحاباه بالنصر المكين إلهه
وصيّر من عاداه تحت المناسم
فقير وحيد لم تعنه عشيرة
ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم
ولا عنده مال عتيد لناصر
ولا دفع مرهوب ولا لمسالم
ولا وعد الأنصار مالاً يخصّم
بلى كان معصومًا لأقدر عاصم
ولم تمتهنه قطُّ قوة آسر
ولا مُكّنت من جسمه يد ظالم
كما يفتري إفكًا وزورًا وضلّة
على وجه عيسى منكمُ كل آثم
على أنكم قد قلتموا هو ربكم
فيا لضلالٍ في الحماقة جاثم
أبى لله أن يُدعى له ابن وصاحب
سيلقى دعاة الكفر حالة نادم
ولكنه عبد نبي مكرّم
من الناس مخلوق ولا قول زاعم
أيُلطم وجه الرب..؟ تبًّا لجهلكم
لقد فقتُمُ في قولكم كل ظالم
وكم آية أبدى النبي محمد
وكم عَلَم أبداه للشرك حاطم
تساوى جميع الناس في نصر حقه
فللكل من إعظامه حال خادم
فعرب وأحبوش وفرس وبربر
وفرس بهم قد فاز قدح المساهم
وقِبط وأنباط وخَزْر وديلم
وروم رموكم دونه بالقواصم
أبوا كفر أسلاف لهم فتحنفوا
فآبوا بحظ في السعادة لازم
به دخلوا في ملة الحق كلهم
ودانوا لأحكام الإله اللوازم
به صح تفسير المنام الذي أتى
به دانيال قبله حتم حاتم
وهند وسند أسلموا وتدينوا
بدين الهدى رفضًا لدين الأعاجم
وشق له بدر السموات آية
وأشبع من صاع له كل طاعم
وسالت عيون الماء في وسط كفه
فأروى به جيشًا كثير القُماقم
وجاء بما تقضي العقول بصدقه
ولا كدعاوٍ غير ذات قوائم
عليه سلام الله ماذر شارق
تعقبه ظلماء أسحم قاتم
براهينه كالشمس لا مثل قولكم
وتخليطكم في جوهر وأقانم
* ويختم قصيدته العصماء بالفخر على نقفور وقومه وملته، وبالسخرية من قصيدته الباردة. قال:
لنا كل علم من قديم ومحدث
وأنتم حميرٌ داميات المحازم
أتيتم بشعر بارد متخاذل
ضعيفِ معاني النظم جم البلاغم
فدونكها كالعقد فيه زمرُّد
ودرٌّ وياقوتٌ بإحكام حاكم
* وموعدنا في الحلقة القادمة؛ مع قصيدة الإمام القفال، وهو من المعاصرين لنقفور الطاغية.