د.فوزية أبو خالد
المكتبات خبرات متعددة:
«لقد أحسستُ بعد كتابة هذه السلسلة من المقالات عن المكتبات أن في بعض عناوينها الفرعية وبالأخص عنوان «خبرة المكتبات» أو ما إليه مبالغة لم استسيغها بالعودة للمقالات للربط ما بينها، فإذا كنتُ قد وضعتُ عنوان خبرة أولى بالمكتبات لأعبر عن طراوة التجربة في عمر غض من دخولي لعالم الكتب عبر قلاعها الشامخة في الخيال كمكتبة المؤيد بالطائف، ومكتبة المدرسة ومكتبة أمي، فإن عنوان يربط بين «المكتبات والخبرة.. ثانية.. ثالثة..» قد صار مع التقدم في كتابتي عن المكتبات عنوان واسعا إذا لم يصبح فضفاضا في انتقالي للحديث عن مكتبات الجامعات كمكتبة جامعة الملك عبدالعزيز ومكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت ومكتبة كلية لويس اند كلارك ببورتلاند أوريجان وما سيتبعه من حديث عن مكتبات أخرى. فأي خبرة يمكن أن تكون للإنسان ولطالب أو عَشَاق (بفتح العين) الأدب والإبداع من العبور «العابر» بمكتبات جبارة تملك مئات الآلاف من الكتب والمجلدات والدوريات والأوعية المعرفية الأخرى ضوئية وسمعية.. إلا كمن يظن أن له خبرة بالمحيطات والبحور والأنهار والمطر والينابيع والندى والرذاذ لمجرد أنه لا يستطيع أن يعيش بدون ماء. فرغم ترددي شبه الدائم على المكتبات قبل أن نغوص في العصر الإلكتروني الذي صار يصب علينا محتوى المكتبات وما نتوق له منها صبا بضغطة زر، لم يكن يستهويني أن أبحث في مصنفات الكُتب وحشر يدي في أدراج بطاقاتها إلا لأعبر عن إعجابي الشديد لنفسي بذلك العقل التنظيمي وبتلك الأيدي المنظمة التي استطاعت أن تنضد الكتب حسب عناوينها وحسب أسماء مؤلفيها بذلك الترتيب الأخاذ. فخلاف تلك التحية العجلى لمصنفات الكُتب وبطاقاتها المرجعية، فإنني غالبا ما أحرص أن أسرق من وقت مطالعتي للكتاب المقصود وقتا لأمتع عيوني وأطيب ملابسي بـ»التورق» إن (جازت الاستعارة) برائحة الكتب وعبير خشب الأرفف والإصغاء لتلك الموسيقى والتراتيل الخاصة بدور الكتب عادة المصممة من سلم الصمت الموسيقي بالمكتبات والمتمثلة في حفيف الرفوف ورفيف الكُتب. أما في الأوقات الضيقة فالطالما كنتُ أركن على الصحبة التي كثيرا ما كانت تتكون بيني وبين تلك الكتيبة الملائكية من العاملين والمشرفين على المكتبات لإسعافي بكتاب أو بآخر لريثما أنعم بوحدتي في كمائن أو أماكن خلوة القراءة. وفي هذا السياق لا بد أن أذكر بما أن الشيء بالشيء يذكر، امتناني العميق وإن بأثر رجعي لمكتبة مدينة الملك عبدالزيز للعلوم والتقنية بالرياض التي لطالما امدتني بالكتب والمراجع التي كنتُ احتاجها لبحوثي ولبحوث طالباتي قبل العهد الإلكتروني ما قبل عقد التسعينات الميلادية وطواله في الوقت الذي كان يصعب فيه وصول النساء بالذات لمصبات الكتب وقلاعها المنيعة وقتها، فقد كان يكفي أن أرسل لهم عنوان الموضوع المراد البحث فيه ليرسلوا عناوين الكتب المتاحة فيه وتصويرا عنها.
****
مكتبة الملك سلمان/ جامعة الملك سعود:
أُظن أن الأحرى بي أن أترك الكتابة عن تجربتي بمكتبات جامعة الملك سعود وعلى رأسها مكتبة الملك سلمان العتيدة لتكون مسك الختام لهذه الكتابة المتتابعة عن «المكتبات»/ تجربة شخصية وذلك لطول التجربة زمنيا ولما لها من شجون وشئون وما يكتنه علاقتي بها من تباريح الحنين ومكر الذاكرة التي تنتقي في معظم الأحيان كنوزها من شريط الذكريات الإشكالية أو الشائكة، هذا وإن كان ترتيبها لو أردتُ التتابع المرحلي لتجربتي مع المكتبات الجامعية بالذات يكون هنا ولكني سأتركه للمقال القادم.
******
مكتبة آشبرن هول ومكتبة رايلاندز لجامعة مانشستر/ بريطانيا:
بدأتُ بالإشارة لمكتبة آشبرن هول وليس بمكتبة جامعة مانشستر الرئيسة في تجربتي مع المكتبات ببريطانيا أثناء دراستي للمتطلبات الدراسية من المقررات لعام واحد ومن العمل على أطروحتي العلمية الممتدة لما يقارب خمس سنوات بنهاراتها الرمادية والمشمسة وبلياليها الحالكة والبيضاء بشتائها المتدثر بمعاطف المطر والثلج وبربيعها المندلع بزهر التفاح وخريفها المترع بألوان الكناري والشموس والبهارات، وذلك لأنني قضيت معظم ساعات الدراسات الطوووووويلة على مدى تلك السنوات نزيلة مكتبة آشبرن هول بعمرها الذي بالصدفة بلغ مائة عام يوم دخولي إليها للمرة الأولى 29 أكتوبر 1997م. وهي مكتبة السكن الذي كان من حظي الإقامة به طوال سني دراستي استئناسا بوجود صديقتي هتون الفاسي التي سبقتني إلى هناك رغم أنها تصغرني وكانت أول طالبة دكتوراه تتولى بجانب دراستها إدارة شئون الطالبات بذلك السكن وكانت سكناه وقتها مقصورة على الطالبات، وكذلك كان سكني بآشبرن هول بناء على مشورة د. هناء الزهير (جللها الله برحمته) التي سبقتنا بعقدين من الزمن في السكن به ودراسة تخصص صيدلة بجامعة مانشستر.
لم تكن مكتبة آشبرن هول مبنى على الطراز القوطي بزجاج معشق شاهق وتضم عددا لا محدودا من الكتب يجاوز مئات الآلاف مع آخر صيحات الكتب مثل مكتبة «جون رايلاندز» بوسط الحرم الجامعي على شارع أكسفورد غير بعيد عن مبنى كوبلاند حيث قسمي لعلم الاجتماع، بل كانت مكتبة آشبرن هول في ذلك المبنى العتيق لسكن الطالبات مكونة من ثلاث قاعات فقط مؤثثة ببضع مئات من كتب معتقة معظمها يعود لما قبل الربع الأخير من القرن العشرين ومعمارها كبقية مبنى السكن مقام على الطراز المعماري الإنجليزي العتيق بنوافذ مطاولة تمتد من أعلى السقف الرفيع إلى ما قبل أرضية المكتبة بمسافة قصيرة وتطل على الحديقة الغابوية للسكن ببركتها الملأى بالماء المثلج شتاء وبأسراب البط صيفا وأوراق الشجر الزعفرانية خريفا وبزهر التفاح الوردي ربيعا مما كان يتجرأ على الجو التاريخي المتجهم والمبالغ في الجدية الذي يحاول أن يحكم قبضته على المكان وبما كان يجعل تلك مكتبة/ آشبرن هول على الرغم من كهولتها متجاوبة مع مزاجي الشبابي التمردي وقتها.
لم يكن بمكتبة آشبرن هول رغم كتبها المعتقة ذلك العدد الكبير من قاعات المخطوطات والوثائق التاريخية بمختلف اللغات كما هو الحال في مكتبة جون رايلاندز، كما لم يكن بها قاعات متعددة الأحجام للبحث والقراءة وعددا أكبر من أجهزة الكمبيوتر، بل في الواقع لم يكن قد دخلها إلى أن غادرتها عام 2001 ولا جهاز كمبيوتر واحد ولكن كانت بها ألفة وفعالية معا فأشعر وأنا أسكنها أكثر مما أسكن في غرفتي بالسكن وكأن مكتبات العالم في متناول يدي وكأنها كلها بساتيني وأرضي وبيتي. صحيح كنت افتقد في مكتبة آشبرن هول قاعات الفنون بمكتبة جامعة مانشستر ومختلف الأحجام الجمالية من المنحوتات ومنها مجسد منحوتة «إنريكويتا أوجستينا تينانت» الجميل زوجة «جون رايلاند» التي بنت المكتبة تخليدا لذكراه على طراز أقدم مكتبة في التاريخ الإنجليزي وهي مكتبة جامعة أكسفورد وعهدت بتصنيف كتبها للأكاديمية إليس كووك عند تدشين المكتبة عام 1899 كواحدة من أوائل المباني العامة التي دخلتها الكهرباء بمدينة مانشستر قبل تحولها لمكتبة لجامعة مانشستر بما يقارب 75 عاما ، إلا أنني في مكتبة آشبرن هول أجد أُنسا يفوق ليالي الأنس بفينا الذي تغنت به أسمهان قبل أن أولد ربما. فلم أكن بمكتبة السكن مضطرة لأن أمشي ما يقارب ميلين «متوحوحة» من البرد أحمل على ظهري حقيبة تهد الكتفين وأتلفت من وسواس الظلمة خلفي أو في أحسن الأحوال أكون مضطرة لانتظار الأتوبيس الخاص بالجامعة الساعة التاسعة مساء في صقيع مانشستر ليوزعنا مع السهارى مثلي إلى مواقع سكنانا المختلفة، بل كنتُ في مكتبة آشبرن هول مثل شجرة ملكة الليل أملك الليل بما طال من آخر قطرة في الغروب لما بعد أول قطرة في الفجر ملكية خاصة وحدي لا يشاركني فيها إلا القليل من الطالبات غاويات الدراسة في هدأة الليل مثلي. كان لمكتبة آشبرن هول في الليل أنس الصمت العميق كما كان بها أنس صحبة الكُتب وأصحاب الكتب أولئك الممشوقين الذين أداروا ظهورهم لصخب العالم وانحنوا في جلال ينحتون سواقي الحبر فلا أملك إلا أن أترك نار الغيرة تأكلني من شغفهم وصبرهم لأكون مثلهم حرة مبحرة متبتلة في محراب المكتبة من اللحظة التي أسلم فيها من صلاة العِشاء إلى اللحظة التي تطقطق فيها فقراتي وأنا بصدد الوضوء لصلاة الفجر.
أستطيع براحة ضمير وشفافية ودون مبالغة القول إن مكتبة آشبرن هول كانت بالنسبة لي غرفة المعيشة وغرفة الإنعاش معا، لدرجة أنني كتبتُ فيها قصيدة واشتركن في ترجمتها معي من العربية للإنجليزية عدة زميلات وربما لا زالت القصيدة بإطارها الخشبي معلقة هناك حيث تركتها أثرا نحيلا وبصمة شاهدة على قلق الشعر الذي عاش تحت جناحي مكتبة آشبرن هول وبين رفوفها للكتب عدة سنوات
ومع ذلك فقد كنتُ بطبيعة البحث العلمي كثيرا ما أتردد وخاصة في مرحلة المقررات وما قبل الكتابة النهائية للأطروحة على مكتبة جون رايلاندز المكتبة الأم بجامعة مانشستر خلال ساعات بعض النهارات الأقل مطرا أو حسب مقتضى الإلحاح البحثي وأجد متعة لا تشبه أي متعة أخرى وأنا أفطم نفسي عن كتب الأدب وانغمس في كتب علم الاجتماع أتساءل مع دريدا عن مفعول الكلمات وفعلها الاجتماعي، أتعرف على إدوارد سعيد خارج المكان عن قرب، أتبحر في رحلة ميشيل فوكو في مشفى المجانين وفي العلاقة الشائكة بين القوة والمعرفة وأقوم بتفكيك شفرة رسائل أنتوني جرامشي من السجن وأحاور فيرجينيا والف، سيمون دي بفوار ليلى أحمد في إعادة قراءة خطاب السيطرة الغربي وعلاقته بأطروحة النساء. بالإضافة لذلك التعالق بين حياتي اليومية في الغربة وبين العيش في وطن المكتبات كنتُ أسرق ساعات قليلة مابين فينة وأخرى متباعدة عن بعضها البعض لأقوم بقراءت أدبية خالصة أو لمشاهدة بعض ما يعرض من مسرحيات الشتاء النخبوية بـ»مكتبة مانشستر المركزية» بمبناها المعماري الخلاب بقبته ذات الأبهة اللافتة وسط أعمدته على هيئة المعابد الرومانية الواقعة مقابل ساحة ساينت بيتر قريبا من بيكاديلي وسط البلد، مثل مسرحية النظارة المكسورة لآرثر ميلر التي شاهدتها مع عدد من الزملاء والزميلات وكان منهم الفنان الإماراتي حبيب غلوم وغادة الذبياني من لبنان وهتون الفاسي وجويه تشانج من الصين.
فكانت كأن الخلوة من الاعتكاف اليومي بالمكتبات لا تطيب ولا تكون حلالا بدون شعور بالخيانة أو بالذنب إلا بالخلوة مع النفس في مكتبة.