د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كتاب خريدة القصر وجريدة العصر، كتاب ضخم من عشرين مجلداً، يحوي الكثير من التراجم لبعض العلماء والآباء والشعراء، وقد أفدت منه في مؤلفاتي، وكان أحد المراجع التي أعود إليها لسد نقص من شعر ونحوه، لأحد الأعلام، لإحاطته بعدد كثير منهم، ومؤلفه عماد الدين الأصبهاني الكاتب، قرشي النسب ولد في أصبهان، وعاش شبابه في بغداد دار السلام، ولهذا فمعظم تراجمه عن البغداديين ومن حولهم، لكنه توسع حتى وصل إلى أدباء الأندلس، وشعرائها، عاش في القرن الخامس عشر الهجري في زمن الأيوبيين أثناء عهد صلاح الدين الأيوبي، وكان من أفراد المنظومة السياسية والعلمية في ذلك الوقت، فقد كان نائباً للوزير ابن هبيرة، وأحد الكتاب المرموقين.
تعرض للسجن بعد وفاة الوزير، وخرج منه، وعمل في إدارة الدولة، إلى أن قدمه قاضي القضاة إلى صلاح الدين، فبلغ لدية منزلة عالية، وتولى شؤون سياسية وكتابية إلى أن توفي صلاح الدين، وعندما تولى إسماعيل الحكم أبعده، فتفرغ للكتابة، وقد ألف عدة كتب منها ما يمجد فيه صلاح الدين مثل كتابه (الفتح القسي والفتح القدسي) وأراد بالقسي الإشارة إلى قس بن ساعدة الأيادي المشهور بالبلاغة والسجع والحكمة، وهو يشير إلى أن الله فتح عليه بالبلاغة والسجع في مدح صلاح الدين بأسلوب مشابه لقس بن ساعده الأيادي الخطيب المشهور،كما فتح الله على يد صلاح الدين بيت المقدس.
وكتاب خريدة القصر وضعها ذيل على كتاب زينة الدهر، والتي بدورها ذيل على دمية القصر، وهي أيضاً ذيل على يتيمة الدهر للثعالبي، وهذه ذيل على كتاب البارع لهارون المنجم، والتذييل معروف ومتبع في العصور التي مضت واستمرت فترة من الزمن ولا تقتصر على هذه الكتب فحسب. وإنما هناك كتب أخرى كثيرة أيضاً يعتبر ذيل على كتب سابقه يسير فيها المؤلف على نهج من سلف، مع إضافة مواد جديدة، وإن كان هناك من مأخذ على هذا الكتاب، فهو التكلّف في السجع الذي يفقد في بعض الأحيان الجملة معناها، ويجعل القارئ محتاراً في فهم ما يقصده المؤلف من معنى، والحقيقة أن السجع فيه جمال، ويسهل على القارئ الحفظ إن أراد، لكن إذا زاد التكلّف فيه، أضاع علينا الكثير من المعاني، إضافة إلى أنه أيضاً يجعل المؤلف يجنح إلى معنى قد لا يكون في ذهنه أصلاً.
سبب كتابة المؤلف لهذا الكتاب، قراره بأن يجمع ما قيل من شعر في مدح عمه أحمد بن حامد الأصبهاني أو الأصفهاني، وهو عالم جليل، لكنه بعد أن بدأ بالكتابة عن عمه، دخل في بحر لجي، لم يكن في الحسبان، فتجاوز ما رسمه، وتوسع في كتابة أشعار العراقيين، والشاميين، والمصريين والمغرب والأندلس، وبذلك حفظ لنا زاداً كثيراً وجميلاً ومهماً، ولولا ذلك لفقدنا الكثير من أشعار السالفين، وقصصهم وما قد حلَّ بهم، ومثله فعل ابن بسام الشنتريني الأندلسي في كتابه المشهور الذخيرة في أخبار أهل الجزيرة، فقد رأى أن الكثير من أهل الأندلس في وقته يرون تفوق المشرقيين في الشعر والأدب، وأنهم يقصرون دونهم، فأخذته الحمية، وقرر تأليف كتابه ليجمع فيه نوادر أهل الجزيرة الالبيرية، أي الأندلس وما حولها، من تاريخ وشعر ورسائل وأدب، فكان سفراً رائعاً بقي مرجعاً وشاهداً على علو كعبهم في هذا الميدان.
ذكر الأصبهاني في الجزء الثاني من كتابه خريدة القصر، أن ابن الريفية، رجل مقدم في بلده، لكن قعد به الزمان، وجار به الحدثان، فقصد الأمير دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد، وكان لا يهب إلا وقد سكر، لكن ابن الريفية لن ينتظر الأمير حتى يسكر فيقدم عليه لأنه مضطر، والحاجة لا تسمح له بالتأخير في تحقيق مراده عند ابن مزيد أو غيره، فقال أبياتاً من الشعر، وذهب إلى ابن مزيد، بغض النظر إن كان سكران أو غير سكران، فقال:
فلم يبقَ، يا تاجَ الملوكِ، وسيلةٌ
يَمُتُّ بها ذو حاجة وَهْوَ مُضْطَرُّ
سِوى الخمرِ أَنْ أضحى لَدَيْك منارُها
فوا سَوْأتا إِن قيلَ: شافِعُه الخمرُ
وحاشا وكَلا أَنْ يقالَ: ابنُ مَزْيَدٍ
كريمٌ إذا ما هَزَّ أعطافَهُ السُّكْرُ
وفي الجزء الخامس، ذكر قصة ظريفة عن الشاعر أبو عبدالله بن عتيق المعروف بابن الرقا، وقال عنه، إنه شيخ ظريف مصري الأصل عاش في اليمن نحو أربعين عاماً، وذهب إلى العراق وقابله المؤلف عماد الدين الأصفهاني الكاتب، وانشده من شعره شيئا من الغزل الجميل، وقابله ذات يوم عند ابن الصيفي، وطلب منه أن يكتب له مزيداً من شعره ليسطره في كتابه، فأجابه: من عنده السكر لا يطلب الملح، فرد عليه عماد الدين، أن الطعام لا يصلح إلا بالملح، فأجابه أبو عبدالله، لكن الماء المالح لا يشرب، فرد عماد الدين الكاتب، البحر مالح لكنه لا يمنع الركوب، ومليء بالدر والصيد، فمنافعه كثيرة، قال:
كالبَحْرِ يَقذِفُ للقَريبِ جَواهِراً
جُوداً ويَبْعَثُ للبَعيدِ سَحائِبَا