محمد الراشدي
أن يحشد الروائي العالم في رقعة مكانية لا تجاوز مساحة حجرة، وأفق زماني شديد القصر، اعتباطي التواريخ، في عمل يحيل على حقبة زمنية وئيدة الخطى والتغيرات؛ فتلك مجازفة سردية تخلق جنونًا موازيًا للجنون الذي يؤثث فضاء تلك الحجرة التي تختزل العالم وتوصد دونه بابها في الوقت عينه، فلا يُعلم على جهة اليقين إن كانت تحبس العالم وراء بابها أم أمامه؛ ففي رواية «حجرة» لأمل الفاران، يتجاور عَالَمان؛ يصخب أحدهما أمام الباب، ويتخلق الآخر وراءه، والرابط بينهما «مريم» الشخصية المركزية التي استنبتت بين جدران حجرتها دنيًا تخصها وحدها، يتبارى على أحداثها الجن والإنس، وتزدحم في تفاصيلها المتناقضات بين الثمين والمهمل، والكوابيس وأشهى الأمنيات، والحزن والطرب، الحياة والموت... تلك التفاصيل التي أزهدت «مريم» في سائر العلائق والشخوص خارج فضاء غرفتها، فصارت تمر على الأحداث الجسيمة واليسيرة مرورًا عابرًا لا ينزع من روحها توق الإياب إلى فضائها الأحب والخلوة إليه وحده، ولأجل ذلك لم تكن «مريم» تحدّث أحدًا أو تهتم لحديث أحد، وحتى نزهاتها القصيرة خارج أفقها المعتاد تؤول إلى نهايات حزينة تفضي إلى تشبثها بعالمها الذي كانت تخشى عليه سطوة الطارئين دون أن تفرط في أيسر موجوداته أو تفاصيله ولوكانت بقايا البطاريات الجافة المستهلكة!
وفي الوقت الذي احتفظت فيه صاحبة الحجرة بمستوى ثابت من العلاقة تجاه كل شيء خارج إطار حجرتها، واستمسكت بحياد صادم تجاه الأحداث والشخوص؛ كانت ثمة دوائر من العلاقات تنشأ وتتبدد في باحة الدار، ووجوه تبزغ وأخرى تنطفئ، والقاسم المشترك في ذلك كله «مريم» وحجرتها التي ظلت على ضفاف اللهفة للعابرين أمام بابها، على اختلاف الدوافع بين الفضول والشفقة وإملاءات الواجب الاجتماعي، ومحاولات حثيثة من العالم المترصد أمام الباب الموصد على الجنون لاقتحام ذلك العالم المقابل وإعادة تشكيله وفق مقتضى العقل أو ما يتوهمه العالم عقلًا، وهو أكثر ما كان يربك سكينة ذلك الجنون المتصالح مع ذاته، والذي لم يكن القرين من العالم الغيبي ليبدد سكينته بذات القدر الذي تحدثه غارات المشفقين الذين يعبرون بذرائع الحب والإنسانية فيتركون من الأذى مالا تتركه الكوابيس، وهواتف الجن، وقذارات الحجرة المهملة!
والجنون في رواية «حجرة» ليس قيمة رئيسة باعتباره نقطة الارتكاز في السرد فحسب؛ بل هو كذلك أيضًا لأنه المحرك الرئيس لكل ما يوازيه في العالم المقابل، في مفارقة تتبدى دهشتها في عقلانية تصنع على عين الجنون، في الوقت الذي يتصور فيه العالم أمام الباب أنه القابض على مقاليد الأمور والمفوض بإصلاح عالم ما وراء باب حجرة الجنون والمفارقات.
والأكثر دهشة أن الجنون يفرض حضوره وسيطرته ومنطق أحداثه بأيسر التكاليف؛ فمريم لا تبذر الكلام، ولا تحدث أفعالًا فارقة، وكل عتادها أثاث غرفتها واليسير من ممتلكاتها؛ التي تراوح بين الذهب الذي ترتديه في سائر أوقاتها، ومهملات لا تتنازل عنها، بينما تشتبك الأحداث والتفاصيل حولها دون أثر فاعل أو حقيقي.
وإذ ينشطر العالم عند باب حجرة مريم إلى عقل محض يوازيه جنون محض؛ فإن ذلك التوازي بين العالمين يخلق شكلًا من المقارنة السافرة التي ترج المفاهيم وتربك دلالاتها حتى لا يعرف ظاهر الباب من باطنه، وأين هو العقل إن كان نقيضه الجنون يخلق كل ذلك التصالح وتلك الطمأنينة التي أوغرت في نهاية الأمر حفيظة العالم المرتبك بعقله على نحو أفضى به إلى محو ذلك الجنون على نحو شرس ولا إنساني.
وعلى هذا النحو فحجرة مريم ليست فضاء المكان في الرواية فحسب، إنما هي مزيج الأوقات والأماكن والشخوص، وأي فاعلية تتبقى لأي مكان خارج هذه الغرفة لولا أنه اكسسوار يقتضيه نسيج الكتابة؟!
وأي أثر يتبقى لإحالة زمنية تحيل عليها التفاصيل والشخوص حين يضبط السرد ساعته على توقيت مريم؟!
وأعمق من ذلك أن الحجرة رغم جهامة جدرانها اتسعت لتكون الرواية كلها في حالة من التماهي تقشفت فيها تقنيات الرواية كما هي تفاصيل غرفة مريم، وتقاطعت اللغة بين الكاتبة والمكتوبة، في تلك الجمل القصيرة المقتصدة، التي جاءت على شكل رشقات متوالية شديدة الكثافة، شكلت قوام عمل مقتصد جميل، يصدق عليه قول يوسف إدريس وهو يصف حياته: قصة قصيرة طالت قليلًا!