د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
«وإذا المنية أنشبت أظفارها»
على مذهب السكّاكيّ:
1- ذكر لفظ (المنية) وهو المشبّه، وأُريدَ به لفظ (السبع) وهو المشبّه به.
2 - أنْ يريد المتكلِّم المشبّه به (السبع) أمرٌ منصوب عليه قرينة هي ما هو من لوازم المشبّه به وما يُنسَبُ إليه وهو (الأظفار) في (أظفارها) على طريق الاستعارة التخييلية.
3 - يصبح لدينا استعارتان: الأولى في (المنية) التي ذكرت مرادًا بها (السبع) لأنّك بنيت الكلام على المجاز اللغوي فافترضت علاقة مشابهةٍ بين (المنية) و(السبع). والأخرى في إسناد (الأظفار) إلى ضمير (المنية) ولكنّ القرينة ليست من لوازم (المنية) فلا توجد منيّة مجسَّدَةٌ، لكنّ هذه القرينة تشير إلى أنَّ الكلام (وإذا المنية أنشبت أظفارها) على مستويين:
المستوى الأول حقيقي، وبناء عبارته هو:
السبع ينشب مخالبه في الحيّ فيغتال نفسه قهرًا وغلبة.
المستوى الثاني مجازي، وبناء عبارته هو:
المنية تنشب مخالبها في الحيّ فتغتال نفسه قهرًا وغلبة.
4 - عند السكّاكيّ نحن ذكرنا (المنيّة) مجازًا لكننا حقيقة كنّا نريد (السبع) وقد قمنا من أجل بناء الخطاب باختيار لفظ (المنيّة) بدلا من السبع ليستوفي الخطاب بلاغته وبيانه بالاختيار للألفاظ لا بالنظم والتركيب؛ لأننا نستعير لفظًا من مجال لنوظفه في مجالٍ آخر لا على أنّ هذا اللفظ تغيّرت حقيقته بل لأنّنا ندرك حقيقته التي لا تجسيم لها، فصرفنا الكلام على مقتضى الحقيقة التي ندرك أنّها مجسمة وهي (السبع).
5 - في اللفظ (وإذا المنية أنشبت أظفارها) استعارتان إحداهما في (المنية) التي أصلها (السبع) والأخرى (الأظفار) المسندة إلى ضمير (المنية) التي أصلها (السبع).
وما دام الأمر كذلك فظهور المحسوس (الأظفار) في الاستعارة الثانية تخييل؛ لأنّه إسناد موجود إلى معدوم، وما دام كذلك فهذا دليل على أنّ (المنية) نطق بها ومعناها الحقيقي هو السبع؛ لأنّه هو الذي يملك أظفارًا، والمحسوس يسند إلى محسوس لأنّ طريق إدراكه هو الحواس، ولا يسند المحسوس إلى معقول؛ لأنّ المعقول لا جسم له، وما دام لا جسم له فالصفات المسندة إليه ليست إلا دليلا على أنّه لا يملكها وليست فيه، وهذا يتناسبُ مع مذهب المعتزلة في نفي الصفات عن الجوهر، وإلا وقعوا في خطأ وهم يريدون أن الصفات غير الموصوف.
على مذهب الخطيب القزويني
1- التشبيه في النفس، فالمتكلّم شبه المنية بالسبع في نفسه، ثم تُنوسِيَ التشبيه في النفس، وتلفّظ بكلمةٍ واحدةٍ من ذلك (الكلام النفسيّ) الذي هو (المنيةُ كالسبع)، فنطق فقط بكلمة (المنية).
2- يصبح لدينا كلامٌ نفسي، وكلامٌ صوتيّ:
الكلامُ النفسي تشبيه المنية بالسبع، والكلام الصوتي (وإذا المنية أنشبت أظفارها).
3- يدلُّنا إثبات شيء خاصٍّ بالمشبه به (السبع) للمشبه (المنيّة) على أنّ الملفوظ (وإذا المنية أنشبت أظفارها) كان على حقيقة سابقةٍ في النفس ثم مسَّها العَرَض الصوتي فنطق بجزء منها، ولذلك المنيّة عنده لفظ مستعمل فيما وضع له حقيقةً، والاستعارةُ هنا طريقها أنّه صرّح بجزء من حقيقة الكلام النفسي وهو المنية مع حذف باقي الكلام، وهذا على غير طريق السكّاكيّ الذي يرى أنّ لفظ (المنية) يقصد به (السبع) بادعاء أنّ المنيّة ادّعي فيها حقيقة السبع مجازًا.
4- نحن هنا لم نبنِ الخطاب على الاختيار بل بنيناه على حقيقةً لم نصرِّح بها كاملةً؛ إذ اكتفينا بجزئها الذي أظهرناه، وجعلنا الإثبات (الاستعارة التخييلية) دليلاً على أنّ الكلام في مستواه الأول (النفسي) كان تشبيهًا، ثم لمّا دخلنا في المستوى الثاني التّلفظّي الصوتي صار مجازًا لم يكن الخطاب فيه مبنيًّا على اختيار لفظ لندلَّ به على لفظ آخر، بل بني الخطاب على النظم والتركيبِ؛ لتحقيق أمرين:
الأول أنّ الكلام ذو أصلٍ غير ملفوظٍ في النفس.
الثاني أنَّ القرائن التخييلية لا تدلُّ على اختيار كما هو الحال عند السكّاكيّ، بل تدلُّ على أنَّ الشيء المحسوس إذا أسند إلى معقول هو إشارةٌ إلى أنَّ في النفس أصلا تشبيهيًّا بنينا عليه تغيير الملفوظ وإعادة نظمه مع المحافظة على ما يشي بأصله في النفس.
إذن، السكّاكيّ يقول نحن سمينا السبع منية اختيارًا منا لهذا اللفظ فشبهنا ما لا تجسم له بما له تجسم، واستعنا بالتخييل ليكون دليلنا على أنّ أصل الكلام هو السبع لا المنيّة.
والخطيب القزويني يقول نحن ننطلق من أصلٍ في النفس صرّحنا بجزءٍ منه مع حذف كافة أركانه (المنية كالسبع في اغتيال النفوس)، وكان كلامنا مجازًا؛ لأنّ الحقيقة في النفس مضمرة، ودليل ذلك الإضمار أنّ الاستعارة التخييلية لوجود الأظفار فيها وهي صفة لمحسوس تدلُّ على أنّ إسناد هذا المحسوس (الأظفار) إلى المعقول (المنيّة) ليس إلا نظمًا للكلام على أصلٍ في النفس، ولو يكن هناك أصلٌ في النفس هو التشبيه لما صحّ أنْ تكون هناك استعارة.
القولان متقاربان في أنّ المعقولات التي ليست مجسّمة لا تكون ذات صفات إلا بواسطة (الاختيار) الذي نتج عن تعقُّل الأشياء ومعرفتها بالحواس، أو بواسطة (الكلام النفسي) الذي هو أصلٌ لكلِّ نظمٍ ملفوظٍ سلك فيه ترتيبٌ غير الترتيب الأصل في النفس.
والله أعلم.
** **
- جامعة الحدود الشمالية