حسن اليمني
كتبت روايةً أخذتْ من عمري ساعات وليالي طوالاً، وأذكر أني في آخر صفحة وصلت إليها من تلك الرواية أحسست وكأنّ سائلاً دافئًا ينساب عبر أوردة شراييني يدفع بكريات الدم الحمراء والبيضاء للركض أسرع من المعتاد، كان الركض السريع فوق طاقة التحمل لشرايين أثخنتها ترسبات الملل والانتظار وشوائب أوقات النسيان واللامبالاة.
أعجبت وزهوت بصديقتي الجميلة، وصرت كل ما أعيد النظر أتعجب في حسن تقاطيع وجهها وجسدها وخبث دلالها الذي كان ذكيًا في إخفاء مفاتن السحر والإغراء بطريقة مكشوفة تبصرها البصائر ولا تراها الأعين، ثم مضى يوم ويومان وربما ثلاثة وكانت كافية لأنسى صديقتي الجميلة.
عدت أغرف من أسين الممل والانتظار كطبيعة الألفة بين المرء وأفكاره وظنونه حتى شاكسني العتب واللوم وحفر بعمق أريحيتي ندم وضيق لو لا أني تذكرت أو ربما عللت أو بررت هرولة الوقت وانسحابه الأنيق من عمري بصمت دون ضجيج أو ضوضاء كبديل ثمين يعوضني موت روايتي أو صديقتي الجميلة دون أن يصاحبني في تشييعها أحد.
تتكرر معي قصص العشق الجبان الذي تصل ذروته إلى الشروع في الانتحار ثم التردد والتردد حتى يغضب التردد ويموت الانتحار ويمضي الزمن بقصة عشق جديد، أتساءل بين حين وآخر إن كانت الحياة في أن تعيش داخلك أم ظاهرك ويسرع سؤال انتهازي آخر يقول بسخرية يخبئها خلف ابتسامة بليدة إن كان هذا ما يدعى بحالة انفصام؟
أشعر بالخجل وأنسحب من نفسي إلى أصوات الناس وثرثرتهم، ربما محاولة مني في التملص من استحقاق الأسئلة للأجوبة لكني لا أعرف... بصدق لا أعرف، حتى أن الهروب فاجأني ذات مرة بسؤال نزل عليّ كالصخرة الهاوية فيما إن كنت جبانًا أخاف من عقلي؟ سؤال أحدث دويًا في داخلي فمن العار على البدوي أن يوصف بالجبن، وأتساءل في نفسي إن كنت فعلاً بدويًا فتقهقه السخرية في وجهي كأنها تتساءل إن كنت أهرب من وصف الجبن بالتبرؤ من بداوتي؟
حين خرجت للناس وجدتهم مشغولين بثلاث، لعب وطرب وذات ارب، اللعب ساخن النقاش صاخب الصوت ساطع البريق وما كدت استمع وأشاهد حتى وجدت نفسي تشكك في قدراتي العقلية، في صورة تظهر أرنب يقلد صوت البقرة أو عصفور يقوّس منقاره ليصبح صقرًا، لكنهم قالوا إن كرة القدم صارت تحسب من أدوات القوة الناعمة فخجلت وسكت، وكانت هذه من أحد أهم المرات التي استخدم فيها عقلي لأخفي جهلي وأستر عيبي وحينها وجدتني أحتاج لاستعادة روايتي مع صديقتي الـ.. ج... توقفت الآن أتساءل كيف أصف روايتي بالجميلة وقد وأدتها حيّة ودسستها في الإهمال والنسيان، أشعر أن هناك فاصلاً أو فراغًا بين داخلي وظاهري رغم أني حريص في الابتعاد عن وصف الانفصام بما أومن وأصدق مخلصاً فيه أني داخل وظاهر واحد لكن أحد لا يصدقني فاضطررت للهروب إلى الطرب.
وفي مجالس الطرب شعرت بزلزلة في داخلي لم أستطع تحديد مكانها إن كان في النفس أو الروح أو ربما القلب أو العقل لا أعرف، لكن تجمع آلات صماء في حوار نغم يتراقص بخفة ورشاقة يداعبها خفق طار كأنه يخيط شغاف القلب فينسيني صديقتي وروايتي الجميلة، لكنه في الوقت ذاته يشجيني ويبعثر مكامن عاطفة تيبّس لين غصونها في صدري، وكان رائعًا حقًا أن أخرج من داخلي وأمارس الكذب علناً دون خجل، فاشتكي الفراق وأسهب في وصف جمال حمقاء لا تميز بين الصدق والكذب، وجدت نفسي بحاجة ماسة لسؤال صاحب سيدنا موسى عليه السلام الذي خرق السفينة لينقذها علّه ينقذني من نفسي أو يبني لي جدارًا بين داخلي وظاهري كما بنى الجدار الآيل للسقوط في قرية البخلاء دون أجر.
قررت أخيرًا أن أكون ذكيًا أو خبيثًا أو قل ذئبًا أو ثعلبًا لأدفن داخلي في عقلي وأزيِّن وجهي بألوان قوس قزح كالذي يضعه المهرج على وجهه في حلقات السيرك، لذا بدأت التفكير وتقليب الرأي والبحث عن أقرب طريق لجيوب الناس أو عقولهم أو عواطفهم أو حتى سخريتهم لا يهم، المهم أن أكون، أردت ذلك لكني مُنيت بفشل ذريع منعني حتى من رؤية وجهي في المرآة، بل صرت حتى لا أطيق إشعال الضوء خشية أن يهرب الظلام، أحسست أني أختنق وأموت حتى وجدتني أعود لصديقتي وروايتي الجميلة بوفاء الكلب الذي عاش رفاهية العيش مع البشر فزاده وفاء على وفاء، أسرعت أحاول أن أستعيد تذكر تفاصيلها وفصولها، أسابق ثواني الدقائق لأستعيد صديقتي الجميلة، وحين تخالطت في ذهني تلك التفاصيل رحت أحفر قبرها لأخرجها من الموت إلى الحياة لكني لم أجد إلا رفاتًا.