د.عبدالله بن موسى الطاير
لم نعد بحاجة إلى حنجرة جوبلز ليكذب ويكذب حتى يصدقه الناس، المهمة أكثر يسراً في حقبة شبكات التواصل الاجتماعي، إذ كل ما يتطلبه الأمر أن تصنع الكذبة مهما كانت كبيرة، وتغلفها في قالب جذاب، ثم تستأجر لها من يطلقها في كل اتجاه. اعتقاد جيمس بابتيست كوتو عام 1794 أن «الكذبة بطيئة، وضعيفة، ومقيَّدة، لكن تدوينها يعطيها جناحين من ورق، ومثل الطائر، تشق بهما الغيوم، وتطير من مقاطعة إلى مقاطعة، ومن دولة إلى دولة» أصبح قديماً لأن الورق يتراجع لصالح التقنية التي تنقل المعلومة على نحو متزامن عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وإذا كانت الكذبة في زمن مارك توين يمكن أن تسافر حول منتصف العالم بينما الحقيقة لا زالت ترتدي حذاءها، فإنها في عصرنا الحاضر يمكن أن تلف العالم عدة مرات قبل أن تتحرك الحقيقة من فراشها الوثير. وإذا كان ال ديفيد يرى أن «كذبة واحدة لها القدرة على تشويه ألف حقيقة»، فإن السلطة التي اكتسبتها الكذبة المعاصرة تنسف ملايين الحقائق من أساسها، وليس مجرد تشويهها.
كتب رشيد جانوجا «إن عدم وجود ضوابط أخلاقية وقانونية وفكرية في شكل رقابة تحريرية وعقوبة قانونية يجعل منصات التواصل الاجتماعي أسلحة حقيقية للخداع الجماعي، تتمتع بالإمكانات التخريبية نفسها التي تتمتع بها أسلحة الدمار الشامل». كان حارس البوابة في عصر الورق والإعلام الجماهيري يماس رقابة انتقائية تحد من تفشي الفوضى والخصومات بدون توجيه، ليصبح الانتشار المغرض والفوضوي للرسائل التي تشيع الخلافات بين الخصوم هو القاعدة الممولة من قبل الناشرين لهذا النوع من المحتوى. «إن مجموعة من الشباب غير المتعلمين والعاطلين عن العمل والمحبطين والغاضبين جاهزة اليوم لاستهلاك وإنشاء محتوى مزيف مدفوع الثمن، وإن انعدام الفرص، وغياب سيادة القانون قد أدت إلى خلق بيئة خطرة تكثر فيها الأكاذيب والشعبوية والشائعات».
لقد أخفق كولن بأول، ومن خلفه الإعلام الجماهيري الموجه، في إقناع العالم بكذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية عام 2003م، ولكن الخطاب اليميني المتطرف الذي استخدم بإتقان شبكات التواصل الاجتماعي لم يجد صعوبة البتة في إقناع ملايين الأمريكيين بأن انتخابات 2020م مزورة، مما دفع بالمئات من الأكثر تطرفاً إلى قلب الكونجرس في غزوة 6 يناير 2021م.
في كتابها جمهورية الأكاذيب تقدم آنا ميرلان وصفاً دقيقاً للأشخاص الذين يقفون وراء الأكاذيب، مشيرة بأصبعها السبابة إلى الطيف السياسي، والظروف التي ساعدتهم على السيطرة، على اعتبار أنهم نسجوا مجتمعاً يفتقر إلى شبكة الأمان الاجتماعي، وعدم كفاية التعليم، ويتعرض لحروب ثقافية مريرة، وعانى لسنوات طويلة من انعدام الأمن الاقتصادي مما خلق الاعتقاد لدى مجموعات كبيرة من الناس بأنهم منسيون ومحاصرون من قبل حكومتهم. واعتبرت آنا أن ظروف الأمريكيين المعاصرة والماثلة في مناخ دائم من الاغتراب والاستياء هي بيئة مثالية لحركات المؤامرة وترويج الأكاذيب.
قناة فوكس نيوز الأمريكية مطالبة قضائياً بدفع تعويضات تقدر بنحو 1.6 مليار دولار للشركة التقنية التي أدارت التصويت في الانتخابات الرئاسية عام 2020م، وظهر في ملف القضية كيف روج مذيعو القناة الأكاذيب من أجل المحافظة على مشاهديهم البسطاء كما قالوا. وهذه من القضايا النادرة في بلد يكفل حرية التعبير، لكن الشركة رافعة الدعوى تدفع من خلال محاميها برواية وأدلة لتثبت أن الأكاذيب ليست حرية تعبير يحميها الدستور.
لم يعد الأمر يتعلق بتغييب الرأي العام واستغفال الناس، والاغتيال الناعم للأشخاص، وإنما تمادى الكذب وأمعن في تجهيل العالِمين، ومارس سلطاته المطلقة في خلق وعي مزيف وواقع مزور، غير قادرين على الصمود عندما تواجه المجتمعات تحديات وجودية.