أ. د.عبد العزيز بن محمد الفيصل
الدولة السعودية شجرة ثابتة جذورها في منتصف القرن التاسع الهجري، عندما غرس بذرتها الأولى مانع بن ربيعة المريدي في الدرعية، وذلك في عام خمسين وثمانمائة هجرية (850هـ)، وبما أن مانع بن ربيعة وابن درع ينتسبان إلى بني حنيفة من بكر، فلا غرابة في اهتمامهما بحماية بلد بكر، وبالأخص بلاد حنيفة التي هي فرع من بكر، ووادي حنيفة ينسب إليها، واستقرار مانع في المليبيد وغصيبة في سرة وادي حنيفة دلالة قوة ومنعة، فالأماكن التي يتوافر فيها الماء لا يستقر بها إلا القوي، فالقبائل التي ترعى في صحاري اليمامة تحتاج إلى الماء وتحتاج إلى الأعلاف في شهور الصيف، ومانع بعيد النظر فقد حسَّن علاقته مع البادية المجاورة، ولذلك ثبتت إمارته وسار ذكره الحسن الذي خوَّل له مهادنة من كان ينوي الإساءة إليه أو مهاجمته للكسب، وتنمو الشجرة التي غرسها مانع، فربيعة بن مانع سار على سيرة أبيه، حيث ثبتت الإمارة، فخاف جيران ربيعة من اتساع إمارته، وأقوى جيران ربيعة آل يزيد، حيث دامت العلاقة المتوترة بين ربيعة وآل يزيد، فتارة تكون في صورة حرب، وتارة تكون في صورة الحذر المستمر، إذاً وادي حنيفة تتقاسمه ثلاث قوى في آخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر،، وقد تمخض من هذه القوى المتنافسة بروز محمد بن سعود جد الملك سلمان بن عبدالعزيز الخامس والمؤسس للدولة السعودية وبداية حكمه في سنة تسع وثلاثين ومائة وألف هجرية (1139هـ) مؤسسًا لدولة ستستمر قروناً متتابعة. إن يوم التأسيس الذي اختاره الملك سلمان -حفظه الله- هو اليوم الذي نعيش ذكراه في يومنا هذا، وهذا اليوم جدير بالإذاعة والتنويه بذكره لأنه بداية مجد، فهو يوم مذكور، والملك سلمان -حفظه الله- أراد أن يعطي المؤسس -محمد بن سعود- حقه من التقدير الذي يستحقه، فقد أسس دولة اتسعت في حينه، وفتح الطريق لمن جاء بعده من أبنائه وأحفاده، فهو صاحب الريادة، ورافع راية المجد التي تلقفها من جاء بعده، فامتدت الأمجاد وتتابعت الانتصارات، وإن حصل انكسارات فهي قليلة، فالانكسار سكون تعقبه عاصفة جديدة، هذا هو دأب الدولة السعودية في تاريخها المديد.
إن الملك سلمان الذي التفت إلى تعيين يوم التأسيس أراد به تسليط الضوء على حكام آل سعود، ثم أجداده في آل المريدي، فسلسلة الحكم متصلة، وشرف المجد متتابع، فنحن اليوم ننعم بالأمن في ظل الملك سلمان، ووالده الملك عبدالعزيز جدد تأسيس الدولة، وجده عبدالرحمن عمل على تثبيت الأمن، ووالد عبدالرحمن فيصل حاكم عادل، وتركي الجد الأعلى للملك سلمان مؤسس للدولة بعد انكسارها، ثم المؤسس محمد بن سعود، وسعود والد محمد حكم سنين قليلة، وقبله والده محمد حكم سنين قليلة، وقبل محمد والده مقرن الذي تولى الإمارة في الدرعية، وقبله والده مرخان، وقبل مرخان والده إبراهيم، وقبله موسى، وقبل موسى ربيعة، ونصل إلى مؤسس حكم آل المريدي مانع بن ربيعة المريدي، فملكنا سلمان بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع بن ربيعة المريدي سَليل مجد تواصل فيه الحكم، فالحكم يتوافر في آباء وأجداد الملك سلمان، وإن كان هؤلاء الأجداد يتقدم بعضهم على بعض في سعة الحكم وقوته، فمحمد بن سعود المؤسس الأول، وتركي بن عبدالله المؤسس الثاني، والملك عبدالعزيز المؤسس الثالث، فهنيئاً للملك سلمان بهذا المجد، فهو جدير به، وهنيئاً للملك سلمان بنظراته الثاقبة في تاريخ أسرته، والذي رأس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز من أجل حفظ هذا التاريخ المشرف للأسرة الكريمة، أسرة آل سعود، وقبلها أسرة آل المريدي، فالمجد متواصل وحفظه وتسليط الضوء عليه من صنع الملك سلمان صاحب المبادرات النيرة والنظرات الثاقبة.
الجد الأعلى للملك سلمان، محمد بن سعود، طالت مدة حكمه، حيث بلغت أربعين سنة، من سنة تسع وثلاثين ومائة وألف هجرية (1139هـ) إلى سنة تسع وسبعين ومائة وألف هجرية (1179هـ)، مما أتاح له تثبيت الحكم في الدرعية، ثم اتساعه، حيث شمل معظم الجزيرة العربية، وتصحب العدالة اتساع الدولة، فالمظلوم يأخذ حقه، فالقصاص من القاتل قائم، والسارق تُقطع يده، فالأحكام الشرعية تُنفذ، ولذلك أمن الناس على زروعهم وثمار نخيلهم وأغنامهم، فارتقى مستوى المعيشة، وتحسنت الحالة الاجتماعية، فالطرق آمنة والحقوق تعاد إلى أصحابها، ومع تحسن معيشة الناس قلّت الأمراض، وساد الرضا عن الحاكم، وفي النصف الأخير من حكم محمد بن سعود لم يعد في الجزيرة العربية من يكون ندًّا له أو خصمًا يقف بجانبه، بدليل أن ابنه عبدالعزيز تجاوز الجزيرة العربية في حكمه، فالأقطار العربية المجاورة ترهب دولته، وتخشى سطوته، تربى على الانتصارات المتوالية والأمجاد المتتابعة. حملات لا تهدأ، وحروب هدفها الإصلاح، وفي أوج انتصاراته امتدت إليه يد الغدر من رجل مأجور، طعنه في صلاة العصر في جامع الدرعية، واقتربت مدة حكمه من مدة حكم والده، حيث نقصت سنة واحدة، ويتولى الحكم ابنه سعود فيسير على سيرة والده عبدالعزيز، حيث كف الشر بين القبائل، فقلّت الخصومات الداخلية، وأصبح همّ الجميع حماية الدولة ومحاربة خصومها، ويموت سعود بعد حكم دام أكثر من عشر سنوات، ويؤول الحكم إلى ابنه عبدالله، حيث أخذه إبراهيم باشا في الدرعية وأرسله إلى استانبول، حيث قُتل هناك، ويبدأ السكون في الجزيرة العربية مدة عشر سنوات، ينهض بعدها المؤسس الثاني تركي بن عبدالله، يصحبه سيفه فأسس دولة على أنقاض دولة، وصحب سيفه يجمع الشتات ويبني الدولة من جديد، وقد استطاع تركي بن عبدالله بناء مجد، ظن أعداؤه أنه زال ولن يعود، ولكن الدولة السعودية باقية، فيها رجال جُبلوا على الشجاعة وعدم الخوف، فتركي بن عبدالله في أيام نهضته ليس معه إلا المجد الذي يطالب به، فلما تبيّن عزمه وشق صفوف الأعداء، تسابقت البلدان والقبائل في طاعته، وانضموا جنوداً يقاتلون في الدولة السعودية صاحبة المجد والتاريخ الممتد بانتصاراته، ويُقتل المؤسس الثاني غيلة فينهض ابنه فيصل بأعباء الدولة، وهو صاحب حكمة بالإضافة إلى الشجاعة، وكان همّ الإمام فيصل تأمين السبل، فتأمينها نمو للاقتصاد، فتوسعت الزراعة في زمنه، وازدهرت التجارة، فالبضائع تنقمن بلد إلى بلد بلا خوف، فاستأمن الناس وارتاحوا لحاكم يرعى مصالحهم ويردع الظالم عنهم، فكل متجه إلى كسب رزقه في أمان، كل ذلك قائم والحروب في ثغور الدولة لا تهدأ، ولكنها لم تؤثر على عامة الناس في أرزاقهم، فالذين يجندون للقتال قلة، فدولة الإمام فيصل بن تركي دولة سلام وحرب في آنٍ واحد، لأن خلف هذه وهذه عقل مدبر، يدرك حاجة الناس من جانب وحماية ثغور الدولة من جانب آخر.
شخصية الإمام فيصل تقدمت على حكام الزمن الذي عاش فيه، ويُغَيِّبُ الموت فيصل بن تركي، ويبرز الانكسار الثاني في الدولة السعودية، إلى أن قيّض الله لها المنقذ البطل المغوار المؤسس الثالث للدولة السعودية عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل، حيث جمع الشتات ووحّد جلّ الجزيرة العربية في دولة مهابة، عرفت بالمملكة العربية السعودية، وقد أراد الله لهذه الدولة القوة والثبات، فدام حكم الملك عبدالعزيز أكثر من نصف قرن، وإذا كانت الحروب خلال توحيد المملكة قد دامت ثلاثين سنة، فإنها لم تشغل الملك عبدالعزيز عن التحديث والاستفادة من مخترعات العصر، ففتح المدارس، ومد المزارعين بالآلات الحديثة، واستفاد من البرقية والراديو والسيارات والطائرات، وقد أخرجت الأرض كنوزها للملك عبدالعزيز، حيث تدفق النفط، فدعم خزينة الدولة، وسخّر الملك عبدالعزيز المال لتحسين المعيشة والتوسع في التعليم.
والملك سلمان بن عبدالعزيز أصدر في العام الماضي أمراً ملكياً بيوم التأسيس؛ أي تأسيس الدولة السعودية على يد محمد بن سعود سنة 1139هـ، ليعرف الصغير والكبير بداية هذه الدولة التي نعيش في كنفها، ونعتز بملكها سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده محمد بن سلمان، أدام الله عز هذه الدولة، ومنح ملكها سلمان بن عبدالعزيز الصحة والعافية.