مشعل الحارثي
هو صقر من صقور آل سعود وإمام من أئمتها المصلحين المجاهدين المشهود لهم بالعديد من الخلائق التي عُرف بها بين الناس فكان موحداً مخلصاً لعبادة ربه كثير الاطلاع على كتب السلف وأقوال العلماء وكان مثالاً للزهاد العابدين المعتدلين، كما عرف بالحكمة والتواضع والحلم والصبر والجلد والكرم والشجاعة وقوة البأس وعلو النفس، إنه أحد بناة الوطن وقادة التأسيس بالمملكة العربية السعودية ووالد جلالة الملك عبدالعزيز -غفر الله له- الإمام الراحل عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي من بني حنيفة من بكر بن وائل من عدنان - رحمه الله.
إمام نجد وما أدراك سيرته
فقد غدت صحف التاريخ ترويها
عزت بصولته الرياض فانتعشت
به (الرياض) وجرت ذيلها تيها
وجاهد الباطل المخذول ناصره
وقام بالحق حتى ذل باغيها
فأمرعت وزهت وانجاب غيهبها
وقد مشت شاتها في غيل ضاريها
وانجب الصقر صقر العرب فاضطربت
حصون بغي به اندكت رواسيها
والإمام عبدالرحمن الفيصل من مواليد عام 1268هـ وهو أصغر أنجال الإمام فيصل بن تركي والرابع بين إخوانه عبدالله ومحمد وسعود، وكان طوال حياته يسعى لنشر الخير وحفظ الأمن والراحة ونشر الاطمئنان لأهله ولقومه، وفي سبيل ذلك تحمل الكثير من المحن والفتن والكوارث التي مرت بنجد وأهالها وخاض الحروب والغزوات وتنقل في عدد من المدن والبلدان ومنها بغداد والكويت التي انطلق منها ابنه الملك عبدالعزيز لاستعادة ملك آبائه وأجداده.
وقد عرف الملك عبدالعزيز بحبه لوالده وبره كل البر به أولاً كوالد وثانياً لما له من فضل كبير وبطولات وصولات وجولات لإرساء دعائم الأمن والاستقرار على ربوع نجد، وكان يرجع لوالده في كل ما يهم من أمور، وإذا حضر مجلسه قبَّل يده ثم يجلس في آخر المجلس إذا كان غاصاً بالحضور، ويذكر الرواة أنه لما حج الإمام عبدالرحمن بعد ضم الحجاز ومعه ابنه الملك عبدالعزيز وكانت سنه تقارب المئة عام فطاف بالكعبة ومنذ الشوط الثالث شعر بالإعياء فما كان من الملك عبدالعزيز الذي كان لديه الخدم والحشم إلا أن حمل والده على ظهره وأتم الأشواط، وينقل لنا الأمير طلال بن عبدالعزيز -رحمه الله - صورة من برالملك عبدالعزيز بوالده الإمام عبدالرحمن فيقول: اجتمع مرة في الرياض أمراء نجد وعلماؤها وأعيانها ورؤساء قبائلها وكان في مقدمة الحاضرين جدي الإمام عبدالرحمن الفيصل ثم انفض الاجتماع وخرج الجميع يتقدمهم الإمام عبدالرحمن فلما جيء بحصانه ليركبه بادر الوالد فتقدم إلى سائسه وأخذ منه مقود الحصان وقرّبه بنفسه إلى والده ثم بقي واقفاً على هذا الحال في أدب جم حتى ودع الإمام من حفوا به، ولما هم الإمام باعتلاء صهوة جواده انحنى الوالد ليجعل من كتفه مرتفعاً يضع عليه والده قدمه ليعتلي الحصان.
وبتاريخ الاثنين 13 ذي الحجة عام 1346هـ أعلن القصر الملكي وفاة الإمام الجليل عبدالرحمن بن فيصل آل سعود - رحمه الله -، وما إن بلغ الملك عبدالعزيز الخبر وهو بمكة المكرمة حتى خيّم الحزن الشديد عليه لكنه استقبل الأمر الجلل بصبر المؤمن القوي وقد تحدث -رحمه الله - إلى عدد من كتّابه ساعة ورود الخبر عن ظروف وفاة والده الإمام عبدالرحمن فقال: (كان لا يزال كما تعهدونه من صحة وعافية ونظامه في مجلسه وأعماله لم يتغير، وكان قبل يوم عيد الأضحى يستعد للنزول لصلاة العيد في مصلاه ولكن حدث في صباح العاشر من ذي الحجة (يوم العيد) أن أصابه مثل الصفراء فأقام ثلاثة أيام على هذا وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة المصادف يوم الجمعة الساعة الثامنة قدم الإمام إلى رحمة الله فنرجو الله أن يتغمده برحمته).
ومنذ إعلان الخبر انهالت برقيات العزاء على جلالة الملك عبدالعزيز من الأمراء وشيوخ القبائل والمواطنين بالداخل، وتعزية عدد من رؤساء وحكام الدول وكبار المسؤولين بالخارج ومنها تعزية ملك العراق فيصل بن الحسين، وأمير البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وحاكم قطر الشيخ عبدالله بن قاسم آل ثاني، والسيد الحسن الإدريسي، وشكري القوتلي، وحاكم أرتريا، ووزير إيران بمصر، والسنيور موسوليني رئيس وزراء إيطاليا، والسير جلبرت كلايتون المعتمد البريطاني، وعدد من قناصل الدول الأجنبية بجدة ومنهم القنصل البريطاني والقنصل السوفيتي وممثّل الجمهورية التركية بجدة، وقنصل فرنسا، ومحافظ السويس، وشيخ الأزهر وعدد من الجمعيات الإسلامية والدعوية ومنها جمعية الشبان المسلمين وغيرهم.
سقاك الغيث من جنبات قبر
غدا للصالحات به سبيل
إذا ناح الحمام ببطن وج
فدمع العين منسكب هميل
تناد السائحات تقول مهلاً
خفيف ما أصابك أم ثقيل
إذا كان البكاء بكاء حزن
ففي احشائنا حزن دخيل
على أبن الاكرمين أخ المعالي
فيا نعم الأرومة والأصول
ترقى في البواذخ من معد
وفي أبنائه المجد الأثيل
وودعنا الإمام عبدالرحمن الفيصل إلى بارئه ونفسه راضية مطمئنة وعينه قريرة بما تحقق لهذه البلاد الممتدة من البحر إلى البحر ومن حدود الشام إلى اليمن من عز وسلطان ومنعة تقصر عنه يد المتطاول وكل حاسد وطامع بفضل وتوفيق من الله ثم بفضل نصرة دين الله وشرعه المطهر وجهود أبنائه الأوفياء وأحفاده وأحفاد أحفاده المخلصين البررة من الملوك والأمراء وكبار المسؤولين وصولاً لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين السائرين على نهج الآباء والأجداد وحرصهم على إعلاء كلمة التوحيد ورخاء ورفعة شأن الوطن والمواطن.
** الأبيات الشعرية على التوالي لكل من الشاعر أحمد الغزاوي والشاعر محمد بن بليهد - جريدة أم القرى 1346هـ.