أ.د.حمزة بن قبلان المزيني
يدعي بعضُ المتحمسين لتفضيل اللغة العربية على اللغة الإنجليزية أن أحد الأدلة على تفوق الأولى على الثانية أن في العربية كلمتين مختلفتين إحداهما لـ «أخي الأم» («خال») والأخرى لـ»أخي الأب» («عَمّ»)، فيما تستعمل اللغة الإنجليزية كلمة uncle للدلالة على «أخي الأب» و»أخي الأم» كليهما.
والسؤال هنا: أَيَعود غياب كلمة «خال» في اللغة الإنجليزية، مثلًا، إلى طبيعة هذه اللغة بصفتها لغة، أو إلى الطريقة التي يفكر بها متكلموها؟ أيُعد هذا نقصًا فيها يمكن أن يستشهد به على تفضيل لغة فيها التمييز بين الخال والعم عليها، كما في اللغة العربية، مثلًا؟
وينبغي القول بدايةً أن اللغات يختلف بعضها عن بعض في تصنيف الأقارب في شبكة من المصطلحات القرابية. ويمكن الاطلاع على كتاب روبرت ديكسون: «هل بعضُ اللغات أفضل من بعض؟» (ترجمة حمزة المزيني، 2018م)، لبيان الاختلافات بين اللغات في هذه المصطلحات، وأن الأنظمة القرابية في بعض اللغات الأصلية في استراليا وإفريقيا والأمريكتين التي لا تتكلمها إلا أعداد قليلة من المتكلمين أكثر تعقيدًا من اللغات الكبرى الأكثر شيوعًا وأكثر متكلمين.
ويعرف المتخصصون في اللسانيات خاصة، والقراء المطلعون عامةً، أن التمييزَ بين اللغات من حيث طبائعها يستند في العصر الحديث إلى ما يعرف بـ»فرضية سابير ووورف»، نسبة إلى اللساني الأمريكي المشهور إدوارد سابير وتلميذه بنجامين وورف الهاوي للسانيات. وهي فرضية سعت لتعزيز فكرة أن اللغة تَحكم أفكار متكلميها بطريقة لا فكاك منها. ومع أن اللسانيات نفسها دحضت هذه الفرضية منذ عقود فما زال بعض غير المتخصصين يستخدمون مقولات تلك الفرضية، بعلم أو بغير علم، للتمييز بين اللغات، ودليلاً على تفاضلها كذلك. ويكفي أن أورد هنا ما قاله أستاذ اللسانيات النفسية المعروف ستيفن بنكر عن هذه الفرضية، في كتابه الذي ترجمْتُه بعنوان: «الغريزة اللغوية: كيف يُبدع العقلُ اللغة» (دار المريخ، 2000م):
«فرضيةُ سابير وورف الشهيرة عن «الحَتْمِيَّة اللغوية»، التي تزعم أن أفكار الناس محكومة بالمقولات التي توفِّرها لهم لغاتُهم؛ وكذلك الصورة الأضعف لهذه الفرضية، أي «النِّسْبية اللغوية» التي تقول إنه ينتج عن الاختلافات بين اللغات اختلافاتٌ بين أفكار متكلمي هذه اللغات. ويمكن لبعض الذين لم يَبق في أذهانهم أيُّ شيء آخرَ مما تعلموه في الجامعة غير هذه الفرضية أن يسردوا بعضَ الحقائق المتعلقة بهذا الشأن، مثل: اختلاف اللغات في تقسيمها طَيفَ الألوان وتسميةِ هذه التقسيمات بكلمات مختلفة، ومفهوم الزمن المختلف اختلافًا عميقًا [عما في الإنجليزية] في لغة القبيلة الهندية الأمريكية الهوبي، والكلماتِ الكثيرة في لغة الإسكيمو للثلج. ولهذه الحقائق مقتضيات مهمة جدًّا: فالمقولات الأساسية للحقيقة ليست «في» الكونِ نفسه، بل تفرضها على الفرد الثقافة التي ينتمي إليها. . .».
ويتابع بنكر قائلاً: «تبدو فكرة كون اللغات تقولب التفكير مقْنِعةً حين كان الباحثون يَجهلون كيف يعمل التفكير أوكيف يمكن دراسة التفكير نفسه. أما الآن، وقد استطاع علماء الإدراك معرفةَ كيفية التفكير عن الفكر، وتراجع احتمالُ كونهما شيئًا واحدًا تراجَعًا كبيرًا. وما ذاك إلا أنَّ الكلمات أقل تجريدًا من الأفكار. وسيجعلنا فهمُ الأسباب التي تجعل الحتميةَ اللغوية خاطئةً قادرين على فهم كيفية عمل اللغة نفسها».
ثم يبين أن من الممكن أن نجد بعض السمات في لغة مّا ولا نجدها في غيرها؛ لكن هذا لا يدعو إلى القول بأن اللغة التي تعبِّر عن تلك السمة تفضُل لغة لا توجد فيها. ذلك أن اللغة الأخرى ستعبِّر عن الفكرة نفسها بطريقة مختلفة، إن احتاجتْ لذلك.
وهنا أعود إلى قضية غياب كلمة «خال» من اللغات الأوروبية الحديثة ومنها الإنجليزية. ويتبين سبب غياب هذه الكلمة مما أورده البروفيسور في جامعة هارفارد جوزيف هنريك في كتابه ذي العنوان:
The Weirdest People in The World: How the West Became Psychologically Peculiar and Particularly Prosperous, 2020.
ويمكن أن يترجم عنوان الكتاب بما يلي، تقريبًا: «أكثرُ الأمم غرابةً في العالم: كيف صار الغرب مختلفًا في تركيبته النفسية ومزدهرًا على الأَخصّ».
ويعالج المؤلف فيه كثيرًا من القضايا التي تُلقي ضوءًا جديدًا على تاريخ أوروبا الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي باستقصاء ربما يندر مثله. وكُتبتْ عن الكتاب مراجعات كثيرة جدًّا وعُدَّ واحدًا من أكثر الكتب شمولاً وأصالة في موضوعه.
ويهمني هنا ما أورده المؤلف عن تفسير غياب كلمة «خال» من اللغات الأوروبية الحديثة، ومنها الإنجليزية. ويبين في نقاشه الموسَّع للظروف التاريخية التي مرت بها أوروبا أن هذه الكلمة كانت موجودة في تلك اللغات قبل أواسط الألفية الأولى الميلادية، فيقول:
«يمكن أن نرى من خلال دراسة اللغات الأوروبية في أقدم مصادرها المكتوبة أنها كانت تحوي مصطلحاتِ قرابةٍ تنتمي إلى أنظمة المصطلحات المستعملة في المجتمعات التي تتصف بكثافة شبكة القرابة حول العالم. وتحوي هذه الأنظمة اللغوية، مثلاً، مصطلحين مختلفين أحدهما لـ»أخي الأم»، والآخر لـ»أخي الأب». لكن معظم لغات غرب أوروبا تبنَّتْ عند نقطة مّا من تاريخها خلال الألف والخمسمئة سنة الماضية نظامَ المصطلحات القرابية المستعملة الآن في اللغات الأوروبية الحديثة مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية من بين لغات أخرى» (ص 151).
ويعيد المؤلف غياب هذه الكلمة من اللغات الأوروبية الحديثة إلى لحظة فارقة في تاريخ أوروبا، بل يعيد تاريخ أوروبا كله إلى تلك اللحظة التي تتمثَّل في إصدار الكنيسة الكاثوليكية في أواسط الألفية الأولى الميلادية بعض التشريعات لتنظيم الزواج بمسمى: «برنامج الزواج والأسرة»Marriage and Family Program منعتْ بموجبه الزواجَ ببنات الأعمام. ويفصِّل المؤلف ما ترتَّب على هذه التشريعات الكَنَسية الإلزامية من تغييرات اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية جذرية في أنحاء أوروبا التي كانت تخضع لنفوذ الكنيسة الكاثوليكية، وجعلتها على ما هي عليه في الوقت الحاضر.
ويبيِّن المؤلف أن النظام القرابي في أوروبا قبل هذه التشريعات كان يشبه الأنظمة القرابية الأخرى الشائعة في العالم التي تَدخل فيها الأمُّ وأسرتُها في شبكة قرابة زوجها وأسرته. ولهذا كان لـ»الخال» أهميته في الشبكة الأُسْرية الأوروبية قبل تلك التشريعات، كما هي الحال عند الشعوب الأخرى التي تحوي لغاتُها كلمةَ «خال» للدلالة على هذا العضو في الشبكة الأُسرية.
لكن التشريعات الكنسية الكاثوليكية تلك أحدثت تغييرًا جوهريًّا في الشبكة القرابية الأوروبية بتفتيتها البنية القرابية التقليدية وتحويل النَّسَب إلى شكلٍ أبويٍّ عمودي لا يدخل فيه أحد من جهة الأم. وبذلك أزيح «أخو الأم» من شبكة القرابة التي صارت تقتصر على أقارب الشخص من جهة أبيه. وأدى هذا بمرور الزمن إلى «خروج» كلمة «خال» من معاجم اللغات الأوروبية، ومنها الأسرة اللغوية الجرمانية التي تحدَّرت منها اللغة الإنجليزية. وبقيت هذه الكلمة إلى أواخر القرن السابع عشر في لغات الزوايا القصية من أوروبا، كما في اسكتلندا، التي لم تكن تخضع لسلطان الكنيسة الكاثوليكية.
ويتبين من تناول البرفيسور هنريك لهذا الحدث أن غياب كلمة «خال» من تلك اللغات، ومنها الإنجليزية، لا يعود إلى قصورٍ ذاتيٍّ فيها من حيث طبيعتها اللغوية ولا إلى عجز عقليات متكلميها بقدر ما يعود إلى هذا السبب التاريخي الذي نتج عنه غيابها بعد أن كانت موجودة فيها.
ويشهد تاريخ سقوط كلمة «خال» من معجم اللغة الإنجليزية أن معظم التغيرات اللغوية لا تحدث لأسباب لغوية داخلية في اللغة، بل تنشأ أكثر ما تنشأ عن أسباب خارجية غير لغوية.
كما يشهد سقوط هذه الكلمة من الإنجليزية أن التحيزات اللغوية التي تفاضِل بين اللغات لوجود لفظ مّا فيها أو عدم وجوده واتخاذ ذلك وسيلةً لمدح لغة أو التقليل من شأن أخرى، والانطلاق من ذلك إلى اقتراف بعض المزاعم عن مقتضيات هذه القضايا اللغوية على عقول متكلمي تلك اللغات، إنما تقوم على جهل بطبيعة اللغات، في المقام الأول، كما تقوم على جهل بتاريخها الذي يتأثر بالظروف التاريخية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي مر بها متكلموها.
ومن جهة أخرى، فإذا كانت اللغة العربية تشتمل على كلمة للتعبير عن «أخي الأم» فهي تخلو من ثلاثة كلمات من ألفاظ القرابة موجودة في الإنجليزية وهي Nephew للدلالة على ابن الأخ أو ابن الأخت، و niece للدلالة على ابنة الأخ أو ابنة الأخت، وcousin للدلالة على ابن العم! وهي قرابات تعبِّر اللغة العربية عن كل واحدة منها بطريقة وصفية بأكثر من كلمة.
وليس للإنجليزية أن تتبجح بتفوقها على العربية بهذه الكلمات الثلاث أيضًا؛ ذلك أن في اللغة العربية لفظين أحدهما للدلالة على ابن البنت «سبط»، والآخر على ابن الابن «حفيد» اللذين لا يوجد ما يماثلهما في الإنجليزية! (اختفى هذان اللفظان من اللهجات العربية، وبقي استعمال «سبط» محدودًا حتى في الفصحى).
وهذا كله ليس قصورًا في اللغة العربية أو غنى في اللغة الإنجليزية، أو العكس؛ ذلك أن اللغة العربية، وإن لم يكن فيها كلمات للتعبير عن القرابات الثلاث، وأن الإنجليزية وإن لم يكن فيها ألفاظ للتعبير عن «الخال» و»الحفيد» و»السبط»، لا تعجزان عن التعبير عن تلك العلاقات القرابية بطرق أخرى. وهذا ما يحدث في اللغات جميعها.
وخلاصة القول أن كلمة «خال» التي توجد في اللغة العربية ولا توجد في الإنجليزية، من بين أمثلة أخرى كثيرة، لا تصلح سببًا للتفاخر بأفضلية اللغة العربية على اللغة الإنجليزية في ألفاظ القرابة. ويمكن لمعرفتنا السببَ وراء اختفاء هذه الكلمة من اللغة الإنجليزية، مثل اً، أن تؤدي إلى النظر إلى اللغات المختلفة بموضوعية، وإلى الوعي بطبيعة اللغة البشرية عمومًا، وذلك ما سيؤدي إلى التوقف عن استخلاص مقتضيات تحيزية أو عرقية أو تفوقية أو تفضيلية عن لغات لا نعرف ما خفي من تاريخها وتاريخ متكلميها.