د. خالد عبدالله الخميس
لقد وضع ستيف أركان لمدرسة إدارية تسويقية تقنية متفردة، إذ كان لا يؤمن باستشارة الناس فيما هو أفضل، ولا يؤمن أن خيارات الناس هي الأمثل، وكان دائماً ما يستشهد بقول فورد صاحب أول مصنع للسيارات: إننا لو سألنا الناس قبل فتح مصنع فورد للسيارات عن أفضل مركوب لقال لك؛ عربة مريحة يجرها جواد سريع وقوي. ولن يأتي على بالهم مركب السيارة باعتبارها شيئاً لم يألفوه، لكن فورد عندما صنع السيارة غيرت قناعات الناس نحو أفضل مركب.
ومن هنا سارت قناعة ستيف جوبز حينما طور أجهزة الكمبيوتر لدى شركته؛ من أن رأي الناس لا يحدد خصائص المخترع الجيد، وإنما المخترع الجيد هو من يفرض نفسه، ويغير من سلوك الناس بعدما يعتادون على أسلوب جديد في التعامل مع التقنية الجديدة.
وهكذا يرى ستيف أن المنتج الجيد لا يحدده الجمهور، ولا ينبغي أن يبنى على دراسة الجدوى الاقتصادية، وإنما يحدده عامل توجيه قناعة الجمهور، فالإبداع التقني وفلسفة التكنولوجيا هي من تصنع ثقافة الجمهور، وهي من تغير رأيهم وتوجههم بحسب ما سيعتادون عليه لاحقاً، فكما أن للجمهور رأياً معيناً، فهذا الرأي يمكن تعديله والتلاعب به، فالتكنولوجيا ليست مجرد أدوات لها وظيفة معينة يتشبث بها الجمهور، وإنما لها فكر معين يتغير ويغير في فكر الجمهور.
وإن كان معظم المديرين التنفيذيين للشركات الكبرى يضعون الأرباح في أول قائمة وأولويات الشركات، ويدرسون الجدوى الاقتصادية من المنتج ومدى الطلب على المنتج ثم يقوم بإنتاجه، إلا أن فلسفة جوبز ترى أن جودة المنتج هي من تغير في قناعات الناس وهي من تأتي بالأرباح.
من جانب آخر، يرى ستيف جوبز أن التطورات التكنولوجية لا تتوقف عند سقف معين، فهي تأتي متعاقبة ومتسارعة فكل تقنية مهما كانت مستجدة فهي قابلة لأن تتجدد على الدوام فكل مخترع جديد لابد أن يأخذ حقه من الوقت، ولابد أن يعقبها تقنية أكثر تطوراً وأكثر سلاسة.
فبعد إطلاق كمبيوتر أبل1 وأبل2، أُطلق كمبيوتر ماكنتوش، وظن من حوله من المهندسين أنهم وصلوا للسقف الأعلى من الكمبيوترات الشخصية، والذي ليس بعده سقف آخر، لكن ستيف قال لمبرمجي ومهندسين: ثم ماذا؟ أي ثم ماذا بعد أبل ماكنتوش، يريد أن يدفعهم للتفكير باستحداث تقنية جديدة واختراع جديد، رغم أن المبرمجين والمهندسين توقعوا أنهم وصلوا لذروة طموحهم، فما لبثوا حتى خرجت الآيبود، حيث يمكنك من سماع مئات الآلاف من المقاطع الغنائية والموسيقية والمحاضرات بضغطة زر على جهاز صغير تضعه في جيبك، ثم قال لمهندسي شركته: ثم ماذا بعد؟، يريد منهم اختراع شيء جديد، فخرج الآيفون حيث تم دمج جهاز الكمبيوتر وجهاز الهاتف في جهاز واحد، ثم قالوا: خلاص وصلنا لكل أحلامنا التقنية، لكن الثقافة التي زرعها ستيف أن الأحلام والطموحات لا تنتهي، فأخرج لهم الآيباد، حيث تكون المناهج الدراسية والصحف والمجلات والكتب في كتاب إلكتروني، ثم دمج الآيفون بتطبيقات عدة ومختلفة الأهداف، وهكذا، فإن عبارة «ثم ماذا؟» لها استمرارية لا تتوقف ما دام أن الطموح للتجديد جانب متأصل.
وقبل هذا وذاك فعندما خرجت الفارة عام 1978طلب إزالة المفاتيح التي تحرك الإشارة، باعتبارها تقنية اندثرت، كذلك أزال قرص floppy disc بحجم 5 و3 عندما خرج CD drive ثم DVD ثم ذاكرة USB، وهكذا يتماشى مع منتجات جديدة للأمام ويدفن المنتجات القديمة السابقة.
كل تقنية جديدة في رأي ستيف عليها أن تؤدي مهمتها فترة ثم تحل محل تقنية أخرى أكثر حداثة،
وفي هذا يقول في مقابلة تلفزيونية إن التكنولوجيا تمر بمراحل نشاط وهدوء وزوال مثل فصل الربيع والصيف، فليس هنالك تقنية أو برنامج كمبيوتري أو software لا يمكن تطويره، وأن أي تقنية أو برامج تطبيقية غير قابلة لأن تتطور فإنه يوقفها، كما حصل برنامج فلاش التابع لشركة أدوبي Adobe الذي ظل على حاله وقتاً طويلاً دون تطوير والذي أمر بالتخلي عنه.
وما يميز ستيف أن لديه الجرأة للمخاطرة بالدخول في أي تقنية مهما كانت مجهولة وجديدة، فهو أول من دفع المبرمجين لتوظيف الأفلام الكارتونية، لتكون خاضعة لبرمجيات الحواسب، وكانت ثمرة ذلك خروج الفلم الكارتوني الشهير Toy Story الذي أثبت نجاحه المميز وتغلب على منتجات شركة «دزني لاند»، وهكذا يؤسس ستيف بصمة فريدة وبديعة لأي منتج يدخل فيه كل جديد.
أما عن أسلوب تعاطيه وحثه للمهندسين والمصممين والفنيين للعمل، فإنه مثلاً لو طلب منهم تصميم مادة معينة أو تطوير برنامج كمبيوترية، وقالوا إن ذلك مستحيل أو هذا يتضاد مع القوانين الفيزيائية أو الالكترونية، أو هذا مكلف جداً، أو هذه العملية تحتاج لوقت طويل، فكل تلك الحجج لا يقتنع بها جوبز، فكل ما يراه ومتأكد منه أن هذا أمر ممكن، وممكن جداً، ويمكن إنجازه في وقت وجيز، وعندما يجيبوه: إن هذا غير ممكن، فأرشدنا يا ستيف بالحلول الممكنة، لكنه كان يجيب: هذا ليس عملياً وإنما هو عملكم كمهندسين، وعندما يصرون على استحالة تصميم هذا الشيء، يقول: صمموا لي ثلاثة أو أربعة حلول ممكنة، وأنا سأختار الأفضل. وإن صمموا أربعة حلول وعرضوها عليه ولم يعجبه شيء منها، قال لهم ساخراً: كل تصميماتكم تلك مثيرة للاشمئزاز، وعليكم معاودة البحث عن حلول وطرق أخرى، وهكذا يندفع المهندسين ليواصلوا البحث حتى يصلوا في نهاية المطاف إلى الهدف المطلوب.
وهكذا كان لا يقترح حلاً لفكرة المنتج ولا ينفذها، وإنما يلزم المهندسين بالتفكير في حلولها وبتنفيذها ودائماً ما يكرر على المبرمجين عبارة «زينها أنت» Fix it، المهم أن المطلوب يتم وأن الفكرة تتحقق وأن المنتج يكون جاهزاً لبيعه في السوق.
ورغم قسوته على موظفيه، إلا أنه كان يتحلى بكونه شخصية ملهم ومثيرة لأصحاب الهمم الذكية.
ولقد كان ستيف مغرم جداً بتوافق المظهر الخارجي للمنتج مع جودته، ويرى أن التصميم الخارجي للجهاز لا يقل أهمية عن مضمونه حتى أنه حينما يشتري غسالة أو فرن أو ثلاجة لبيته فإنه يقتنيها، باعتبارها تحفة كهربائية أو ميكانيكية أكثر من كونها أداة منزلية، ويمتد اهتمامه بجاذبية المنتج إلى الاهتمام بجاذبية المعرض ومحلات البيع، كون المحل ومظهر المنتج لا تقل أهمية عن جودة المنتج.
كانت هذه الميزة تمثل له قناعة متصلبة وهكذا دمج التكنولوجيا بالفن ودمج الفن بمظهر الجهاز ودمج مظهر الجهاز بجوهره، وأكثر من ذلك أنه دمج ذلك كله مع مظهر محلات شركة أبل، إذ أنفق على إنشاء المعرض الرئيس لأبل الشيء الكثير وزينها بالألواح الزجاجية، حتى أن الدرج الداخلي للمعرض زينه بالفولاذ والخشب والحجر حتى أصبحت متاجر أبل بحد ذاته تحفة فنية.
ولقد قيل له: كيف تبيع وتسوق الكافير لمن رضي بتناول الجبن، إشارة إلى أن مظهر المحل كلف الكثير والزبائن مدفوعين على الشراء حتى ولو كان المحل عادياً.
وكان يقول إن تصميم المحل الجميل يعمل دعاية مباشرة ودائمة لمنتجات أبل، وأن المحل يعمل تسويقاً كبيراً، ويزيد من ثقة الزبائن، وإن جمال المتجر يعكس بلا شك جودة المنتج، وإن تصميم المنتج الخارجي يعكس جودة الداخل في فلسفة تربط بين التكنولوجيا بالفن، وتربط بين جوهر المنتج بالجمال الخارجي. وعندما عاد لشركة أبل عام 1997 بعدما تركها عام 1985 كانت الشركة تعاني من خسائر جمة، وكانوا يصنعون أجهزة مثل الكاميرات، والتي تصنعها أي شركة، لكن التقنية وصلت لطريق لم يتطور، وكانت سياسته أن منتجات الشركة لن تصبح متميزة ومختلفة، ما لم نوقد في منسوبي وموظفي الشركة حس الإبداع والتميز، فقام بإحياء ثقافة الإبداع فوضع على شعار شركة أبل عبارة فكر باختلاف Think different، وهكذا بدء نبض الشركة في التحرك، وبدأ المبرمجون والمهندسون يفكرون بشكل بديع، وهذا ما قصدنا به من كونه شخصية ملهمة للإبداع.
أضف لذلك كله أنه يمتاز بخاصية فريدة، وهي ما جعلت منه مديراً تنفيذياً بامتياز، حيث تسويق المنتج بشكل واسع وكسب إيرادات موسعة لمضاعفة أرباح الشركة، فكل منتج يحاول أن يجد له أسلوباً لتسويقه حتى ولو كان هذا المنتج لم ينتشر لدى الناس، كانت تلك الصفة مغروسة فيه في مرحلة دراسته في الثانوي، حين بدء صناعة أول جهاز مع صاحبه وزيناك (مهندس الاختراعات)، وهو جهاز أسموه بالصندوق الأزرق، وحيث إن وزنياك كان يهدف من عمله ذلك هو المتعة، بينما ستيف حوّر الجهاز لأن يكون سلعة تباع للناس، وكذلك كان أيضاً جهاز أبل الذي ظن مخترعه «وزنياك» أنه مجرد جهاز تكنولوجي مقدم لنادي الهواه لكن ستيف حورها إلى فكر استثماري تكنولوجي جديد، يضاف إلى ثقافة الجمهور ونجح في تسويقه وبيعه على أصاحب محلات كهربائية، وما كان في خلد وزينياك أن اختراعه سيكون له جدوى ربحية لو لم يعمل ستيف جوبز على إقناع صاحب المتجر بفكرة المنتج، حتى أن وزنياك تفاجأ من ارتفاع السعر الذي طلبه ستيف من صاحب المتجر، وكسبوا منه أرباحاً لم يحلم بها.
ومن ذلك الجهاز البسيط وهو أول جهاز لأبل، كانت أول بذرة للكمبيوترات الشخصية عام 1976بعد ما كان الكمبيوترات هي أجهزة ضخمة ويقتصر استخدامها على الشركات الكبرى فقط.
وإن كان من عادة المهندسين والمصممين أنهم يهندسون الدوائر الكهريائية لأجل بيان قدراتهم الهندسية والمشاركة في حصول جوائز، لكن جوبز لا يهدف لكشف علمي أو حصول نشر علمي أو جائزة لبحث مميز، وإنما هدفه مرتكز على «كيف يوظف المنتج إلى بضاعة يتم بيعها في السوق»، وهذا ما يميزه قدرته العالية على تسويق منتجات أبل وإقناع الموزعين بشرائها.
ورغم أن أعداد براءات الاختراع الناتجة من شركة أبل وقته، وصلت إلى 212 براءة اختراع، لكنه لم يعنيه ذلك العدد ولا يعنيه الكشف العلمي بقدر ما يعنيه إمكانية توظيف المنتج كجدوى اقتصادية، كما حصل في توظيف اختراع الفارة ووصلة الكاميرات التي تحول الصورة إلى صورة رقمية fire wire، وكذا اختراع زجاج الغوريلا لشاشة اللمس وغيرها الكثير.
الجدير بالذكر أن ستيف شخصياً لا يفهم في البرمجة أو الهندسة أو التصميم ولم يتخرج من جامعة لكنه يمتاز بحدس عالٍ لدفع وإلهام المهندسين واستثارة فضولهم للكشف المزيد. يقول عنه ويزنياك إن جوبز لا يعرف أن يكتب برنامجاً كمبيوترياً فهو ليس بضليع، لكن فقط يعرف الخطوط العامة للعمل التكنولوجي ولكن له ذائقة في التصميم وذكاء في التسويق.