ذكرت في مقال سابق بأني سوف أُلقى الضوء على كتاب من تأليف الطبيب البريطاني عنوانه (شرور شركات الأدوية)، الكتاب الذي احتوى على مواضيع مهمة في مسألة الدواء أخذت حيزًا واسعًا من الصفحات في حدود 400 صفحة، سوف أكتفي بقطف جزء مختصر جداً من هذه المواضيع التي تناولها الطبيب، وهي:
1 - إخفاء بيانات التجارب
2 - من أين تأتي العقاقير الجديدة.
3 - عدم كفاية الرقابة على الأدوية.
4 - التجارب المعيبة.
5 - تجارب أكبر وأبسط.
6 - التسويق.
يقول يلزمنا أن نؤكد أمرًا لا يقبل الشك، وهو أن التجارِب التي تُموِّلها شركات الأدوية تُفضي على الأرجح إلى نتيجةٍ إيجابية مُبالَغ فيها أكثر من التجارِب المستقلة في تمويلها. وهذه هي الفرضية الرئيسية التي سننطلق منها، وأنت على وشك أن تقرأ فصلًا قصيرًا للغاية؛ لأن هذه الظاهرة من أكثر الظواهر تسجيلًا وتوثيقًا في ذلك الحقل المتنامي المختص (البحث عن الأبحاث) أكثر سهولةً بكثيرٍ في السنوات الأخيرة؛ لأن القواعد المتعلقة بالإفصاح عن تمويل الشركات للتجارِب صارت أكثر وضوحًا بعض الشيء.
في عام 2010، حدَّد ثلاثة باحثين من جامعتَي هارفارد وتورونتو كلَّ التجارِب التي تدرس خمس فئات رئيسية من العقاقير - من بينها مضادات الاكتئاب وعقاقير قرحة المعدة - ثم تحرَّوا عن أمرين رئيسيين، هما: هل كانت نتائجها إيجابية، وهل كانت مموَّلة من قِبل شركات الأدوية؟ ووجدوا إجمالًا أكثر من خمسمائة تجرِبة: 85 بالمائة من التجارِب التي موَّلتْها شركات الأدوية كانت نتائجها إيجابية، بينما 50 بالمائة فقط من التجارِب التي موَّلتها الحكومة كانت إيجابية، وهو فارق ملحوظ جدًّا.
وفي عام 2007، فحص عددٌ من الباحثين جميع التجارِب المنشورة التي أُجريت لبحث فوائد عقاقير الاستاتين، وهي عقاقير تخفض نسبة الكولسترول في الدم، وتقلل خطر الإصابة بالنوبات القلبية، ويصفها الأطباء بكميات كبيرة جدًا، . بلغ إجمالي عدد هذه التجارب 192 تجربة، وهي إما تقارِن أحد عقاقير الاستاتين بعقَّار آخر من الفئة نفسها، وإما تقارن أحد عقاقير الاستاتين بعقَّار من فئة مختلفة يعالج الحالة نفسها. وما إن ضَبَطَ الباحثون العوامل الأخرى، حتى وجدوا أن التجارِب التي موَّلتْها شركات الأدوية كانت أكثر ميلًا عشرين مرةً لإعطاء نتائج إيجابية مؤيِّدة للعقَّار محل الاختبار. وأقول مجدَّدًا إن هذا فارق كبير للغاية.
وإليك مثالًا آخر: في عام 2006 فحص الباحثون جميع تجارِب العقاقير النفسية التي نُشِرت في أربع دوريات أكاديمية على مدى عشر سنوات، ووجدوا أن التجارِب التي أفضت إلى نتائج وصل عددها إجمالًا إلى 542 تجرِبة. وحَظِيَت شركات الأدوية بنتائج إيجابية لعقاقيرها في 78 بالمائة من الحالات، بينما لم تحقق التجارِب المستقلة في تمويلها نتائج إيجابية إلا في 48 بالمائة فقط من الحالات. فإذا افترضنا أنك ابتكرت عقَّارًا وُضِعَ في منافسةٍ مع عقَّار آخر تُموِّله إحدى شركات الأدوية في إحدى التجارِب، فستواجه وقتًا عصيبًا؛ حيث لن تحرز الفوز إلا في 28 بالمائة فقط من الحالات.
إنها نتائج كئيبة ومخيفة، لكنها أتت من دراسات مفردة. ونظرًا لوجود أعداد هائلة من الأبحاث في أي مجال، فمن المحتمَل دائمًا أن يأتيَ شخصٌ مثلي، على سبيل المثال ويختار بعض النتائج على نحوٍ انتقائي، ويُصدر حُكمًا متحيزًا. في حقيقة الأمر، قد أكون أنا فعليًا بصدد الوقوع فيما أَتَّهم صناعةَ الدواء بارتكابه، فأخبرك فقط بالدراسات التي تدعم وجهة نظري، بينما أخُفي عنك الدراسات المُطَمْئِنة.
تجنُّبًا لهذا الاحتمال، ابتكر الباحثون أسلوبًا يُسمَّى (المراجعة المنهجية)، سوف نستعرضه بتفصيلٍ أكثر؛ حيث إنه يقع في صميم الطب الحديث. لكن هذا الأسلوب في حقيقته شيء بسيط: فبدلًا من أن تتنقل على نحوٍ عشوائي خلال الدراسات البحثية، لتختار بعض الأبحاث، من هنا وهناك، التي تدعم معتقداتك وأفكارك السابقة، سواءٌ كان ذلك بوعيٍ أو دون وعيٍ منك، فإنك تتبع أسلوبًا علميًا منهجيًا في البحث عن الدليل العلمي، بما يضمن لك أن يكون الدليل مستوفيًا وممثِّلًا قدر الإمكان لكل الأبحاث التي أجُريت في الإطار نفسه.
جديرٌ بالذكر أن إجراء المراجعات المنهجية أمرٌ مرهِق للغاية؛ ففي عام 2003 وبالمصادفة، نُشِرَت اثنتان من هذه المراجعات المنهجية، وكلتاهما كانتا تتعلقان على وجه التحديد بالقضية نفسها التي نحن بصددها. تطرَّقَت هاتان المراجعتان إلى كل الدراسات المنشورة المتعلقة بما إذا كان ثَمَّةَ تلازم بين التمويل المقدَّم من شركات الأدوية والنتائج الإيجابية التي تحصل عليها منتجاتها في التجارِب. انتهجتْ كلٌّ من المراجعتين أسلوبًا مختلفًا بعض الشيء لفحص الأبحاث، ووجدتا أن التجارِب المموَّلة من قِبل شركات الأدوية، في المجمل، أكثر ميلًا أربع مرات لإعطاء نتائجَ إيجابيةٍ مؤيِّدة لعقاقيرها محل الاختبار. ثم أجُريت مراجعة أخرى في عام 2007 بحثت الدراسات الجديدة التي نُشِرَت في السنوات الأربع التي تلت المراجعتين السابقتين، ووجدت أن عدد تلك الدراسات وصلَ إلى عشرين، وأنها جميعًا باستثناء اثنتين فقط قد أظهرت أن التجارِب المموَّلة من شركات الأدوية أكثر ميلًا لإعطاء نتائج إيجابية للعقاقير التي تنتجها هذه الشركات.