مشعل الحارثي
بعض المفاجآت غير المتوقعة تنزل على النفس كالصاعقة وبشكل موجع ومؤلم ومنها خبر وفاة ابن العم العقيد مهندس غازي بن معيض العمراني الحارثي، ولا أعلم كيف خطر طيفه على بالي قبل عدة ليالٍ وأنا أعتزم السفر للمنطقة الشرقية لحضور افتتاح معرض الكتاب هناك فعرض لي عارض صحي أخرني عن سفري ثم كان موته المفاجئ أسبق مني لأن أراه وأودعه الوداع الأخير، وكانت المرة الأخيرة التي رأيته فيها قبل عشر سنوات بمدينة الدمام، وكنت في دورة تدريبية مكثفة صباحية ومسائية لمدة ثلاثة أيام فلم أستطع محادثته وإبلاغه أنني متواجد بالمنطقة الشرقية إلا في اليوم الأخير وأنا متوجه للمطار، ومع ذلك أصر رحمه الله ولما لي من مكانة كبيرة في نفسه على مقابلتي ورؤيتي حتى ولو لدقائق وفعلاً التقيته وجلسنا في إحدى الحدائق بالقرب من المطار واستعرضنا معاً ذكريات العمر وما طرأ على حياتنا من تغيرات بعد أن فرقتنا المشاغل وظروف الأعمال فأصبحنا لا نلتقي إلا حسب الظروف أو الصدف، وهيهات هيهات أن تعود لنا تلك الأيام والذكريات والسويعات الجميلة.
وليست عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خل عينك تدمع
رحل عنا الأخ والصديق غازي أبو وائل الذي غزا قلوبنا بحبه وطيبته وسمته ونحن لم نعلم منه إلا كل خير، وعرفناه بالبساطة وعدم التكلف شهماً جواداً صادقاً ليّن الجانب، طموحاً صاحب قلب طيب نقي طاهر، لم تدنسه أي مطامع أو مصالح أو زيف، بل كان رجلاً متسامحاً مع الجميع ولا أعلم حتى هذه اللحظة أنه كان سبباً في إلحاق الأذى بأحد بفعل أو قول، بل أكاد أجزم أنه من أصحاب الفطرة السوية الخالصة جعله الله في زمرة المقبولين عند رب العباد. وكم كان لي معه من أيام وذكريات ومواقف لا تنسى منذ مرحلة الدراسة الثانوية تلك المرحلة التي كنا نلتقي فيها كل أسبوع مرتين أو ثلاث وننسج فيها أحلامنا وطموحاتنا التي كبرت معنا في تطلعنا لغد مشرق نصنع فيه مستقبلنا ومستقبل أهلنا وبلادنا، وما أن أكمل المرحلة الثانوية وكان متقدماً عليّ بالدراسة فغادر هو إلى الولايات المتحدة الأمريكية مبتعثاً من وزارة الدفاع وأنا أكملت تعليمي بعد ابتعاثه بعام بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة وعندما تم تعييني بمديرية الأمن العام بالرياض كان قد حصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الكيميائية من جامعة (اورجن) بمرتبة الشرف الأولى فصدر قرار تعيينه بالمصانع الحربية بالخرج، ورغم كل المغريات التي قدمت له بالخارج والمرتبات الخيالية من عدد من الجامعات والمراكز البحثية التي كان يراسلها ويتعاون معها أثناء فترة دراسته إلا أنه رفض ذلك كله وعاد لأرض الوطن لينخرط في خدمة بلاده بكل عز وشرف في أفضل الميادين القطاع العسكري مقدماً روحه وراحته فداءً للقيادة والوطن والمواطن، وعندما كنت أزوره ما بين الحين والآخر بمدينة الخرج في إجازة نهاية الأسبوع كنت أحثه على مواصلة طموحاته واهتمامه الكبير بالجوانب العلمية التي برع فيها وكنت ألح عليه كثيراً في استكمال مشواره العلمي فكان أن التحق بجامعة الملك سعود وحصل منها على درجة الماجستير في الهندسة الكيميائية، وكنت أيضاً أحثه على إكمال المسيرة وأن لا يثنيه عن الحصول درجة الدكتوراه أي حائل إلا أن ظروف العمل وتنقلاته من مكان إلى آخر حدت من تحقيق ذلك المطمح الذي سعى له بكل الوسائل، وعاش حياة حافلة بالجد والكفاح وتدرج في العمل العسكري في عدة مناصب وكلف بعدد من المهمات والأعمال حتى إحالته للتقاعد ليتفرغ لأبنائه ويرافقهم في مسيرتهم العلمية خارج البلاد غفر الله له.
ومع كل ما تملكني من أسى وحزن شديد على رحيله المفاجئ أسكنه الله فسيح الجنان حتى خطرت على بالي هذه الأبيات للشيخ عبدالله العمودي رحمه الله التي وجدت فيها تعزية لنفسي أولاً وعلى تلك السنوات التي مضت ولم ألتقِه وهو يودعنا الوداع الأخير، ولكل الأحباب والأصحاب ولكل من فقد غالياً وعزيزاً لديه ولكل من عرف فقيدنا عن قرب من زملائه وجيرانه وأقربائه سائلاً المولى عز وجل أن يشمله بواسع رحمته وأن يرحم كل من حالت بيننا وبينهم الأقدار ورحلوا إلى دار القرار وأن ينزل عليهم نوراً ينير قبورهم ويفسح لهم فيها إلى يوم الدين.
إن سار يوماً إلى دار القرار فذا
مصير كل الورى من سالف الأمم
إلى جوار رحيم بالعباد مضى
عساه يشمله بالعفو والكرم
القلب في حزن والفكر في شجن
والعين تذرف دمعاً كالسحاب همى
الله يرحمه رحمى تجلله
بواسع الفضل والإحسان والنعم
والله يسبغ من آلائه منناً
على بنيه وكل الآل والحشم
ثم الصلاة على خير الأنام ومن
به التأسي لنا في الحادث العمم
وخالص التعازي وأصدق مواساتي أنقلها لأبناء الفقيد وائل، وياسر، وعبدالله، وبناته، وزوجته وإخوان الفقيد الأعزاء من أبناء العمومة أحمد، وعبدالعزيز، ومحمد، وطلال، وخالد، وأبناء العم تركي بن أحمد وأبنائهم وأنسابهم، ولخامس البرقاء كافة، وتغمد الله الفقيد بفضله وسعة رحمته وعوضنا خيراً في فقده وجمعنا به وبوالدينا ومحبينا وكل من له حق علينا في دار النعيم المقيم.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.