إن الرواية حسب «باختين» جزء من ثقافة المجتمع، والثقافة مثل الرواية مكونة من خطابات تعيها الذاكرةالجماعية، وعلى كل واحد في المجتمع أن يحدد موقعه وموقفه من تلك الخطابات.. وهذا ما يُفسر حوارية الثقافة، وحوارية الرواية القائمة على تنوع الملفوظات واللغات والعلامات..
تُمثل الرواية حالة ثقافية يلجأ إليها الرّوائي بميكانيزماته الخاصة للتعبير عن معطىً ثقافي مشترك. وفيما سيأتي سنلقي الضوء على هذه الميكانيزمات الخاصة بكل كاتب؛ من أجل الخروج بنقاط أساسية في كتابة الرواية.
«خطوات كتابة الرواية» جواب لسؤال ضمني في كتاب «مأدبة السرد» للناقد كه يلان محمد، حيث اختار وبدقة مجموعة من المتحاورين كطرف أساسي للعبته.. وكانت رواياتهم بيادق أساسية من أجل إنجاح اللعبة، وبالتالي فإن كل روائي من بينهم يسعى لتعريف الرواية من وجهته وموقعه... فإذا جمعنا كل هذه الآراء تشكل لدينا خطاب مكتمل حول كيفية كتابة الرواية وأهم المرتكزات القائمة عليها، فالرواية حسب «كه يلان» تطمح لإيجاد أجوبة عن حضور وغياب التواصل بين المظاهر الأساسية للإبداع، وبين الفكر الإنساني وأبعاده المنشودة.
نقف بداية عند الروائي «محمد يحياوي» الذي يعتني بالمكان باعتباره يكسب الشخصية هويتها فيقول: «الشخصيات عندي تكتسب هويتها من موقعها الذي أضعها فيه»، فالمكان أحد العناصر التي تمنح الرواية خصوصية وواقعية إلى حد ما، فهو فاعل أساسي لبناء معالم الرواية، ومن خلاله يستطيع الروائي أن يقيد ويعتق رقاب شخصياته بإسقاطها على الأمكنة المغلقة والمفتوحة والتي تجسد حالتها، كأن يسير بنا في الأحياء الشعبية الضيقة تارة وعلى انفتاح شاطئ البحر تارة أخرى.
أما «نزار عبد الستار» فيرى أن التاريخ له سلطته وقبضته على النصوص الروائية كونه «جذر الرؤية الكاملة والصورة لا تتضح إلا به والاستعانة بالتاريخ يسهم في توضيح أو إعطاء صورة توضيحية للواقع الحالي، وبالتّالي «لا يمكن تفسير جوهر الإنسان إلا من خلال تاريخه ككل» على حد قول «إمرسون» والروائي العربي لا يحكي تاريخ بلده فقط، وإنما يحكي عنا جميعاً في ظروف تاريخية متشابهة، وإن اختلفت بدرجات متفاوتة من رقعة إلى أخرى، ويلجأ الرّوائي إلى تقنية سردية يوازي من خلالها زمن الأحداث التاريخية الماضية بزمن كتابة الرواية، باعتبار أن الحاضر لا ينفك عن الماضي رغم تباعدهما. هذا الإسقاط التاريخي يوائم احتياجات العصر الملحة في رحلة البحث عن الهويّة العربيّة.
وتشيد «أنعام كجه جي» بدور الشخصيات مصرحة بأهميتها فتقول: «الشخصيات هي التي تشغلني..» لأن الشّخصيات تُحرك السّرد وتبعث الروح في النّص باعتبارها مجموعة من الدلالات المتحركة في هذا الفضاء (الرواية)، فمن خلال الإحاطة بها وتنظيمها دلالياً يستطيع الروائي توظيف المعارف بمختلف اللغات، وبالتّالي تُسهم - أي الشّخصيات- في بناء وعي كامل، وإعطاء نظرة تقريبية للحياة ككل.
بينما يلتفت «شكري المبخوت» إلى الحبكة ويرى بأن «الرواية في أصلها حبكة أولاً وقبل كل شيء» والمسألة عنده تكمن في تناسل الحكاية من الحكاية بضرب من التداعي»، ويتقاطع مع فلسفة «بول ريكور» القائلة بأن الحبكة تقوم بوظيفة إيجاد قصة واحدة من أحداث متعددة، فهي تركيب يتم من خلاله تنظيم المعطيات لإحداث الأثر الذي وظفت من أجله.
أما عن «مها حسن» فإن الرواية حسبها عملية سحرية تختلط فيها عقلانية الكبار بمغامرة وجرأة الصغار، هذه السّحرية المتأنية تخلق تفردًا في الكتابة، والتّفرد هنا من أجل الاستمرارية، خصوصًا «أنه في زمن انتشار الكتابة واتساع خارطة الكتاب صار على كل كاتب أن يبتدع أسلوبه ليحافظ على استقلاليته وليشرعن -إن صح القول- حلمه الروائي»، ولكي تمثل الرواية علامة فارقة وجملة اعتراضية كان على الروائي أن يتملص من تردده في خوض المجهول وتقيده بما تم الخوض فيه سابقاً، بل عليه أن يكون مبتكرًا متحررًا، وهو ما يذهب إليه «آلان روب جرييه» في قوله إنّ «ما يشكل قوة الروائي بالضبط أنه يبتكر ويبتكر بكل حرية».
وأخيرًا تعمل «منصورة عز الدين» على إبراز دور المتلقي في عملية الكتابة، والمتمثل في ملء الفراغات التي يتركها له الكاتب؛ أي إشراكه في عملية الكتابة، فتقول: «المتلقي شريك أساسي في أي نص»، والمتلقي -أيا كان قارئًا عاديًا أو ناقدًا- مفتاح النّص الأدبي، يقول «نورمان هولاند» أن قراءة القارئ للنص إنما هي قراءة لهويته هو، إن القارئ يضم خيوط هويته فينسجها خلال استجابته للعناصر التي يتكون منها النص، فالكاتب يرى صورته من خلال القارئ الذي يعينه على ذلك، وبالتّالي فإنّ النّص الأدبي مرهون بالقارئ لا الكاتب.
وعطفاً على ما سبق ذكره، فإن الكاتب والناقد العراقي «كه يلان محمد» أجاب في كتابه «مأدبة السّرد عن أسئلة الرواية التي تطرحها باستمرار، من خلال نصوصه التحاورية مع الروائيين، فوجدنا ما بين السطور ما يجب أن تكون عليه الرواية. هذا، وقد استطاعت الرواية العربية أن تفرض نفسها بمحاولاتها الدائمة في إيجاد شكل مميز لها.
** **
د.مريم بنت عياش - أكاديمية من الجزائر